آخر تحديث :السبت-25 أكتوبر 2025-10:52م

فن صناعة الأزمات

الخميس - 05 يونيو 2025 - الساعة 12:59 م
علي الكويتي

بقلم: علي الكويتي
- ارشيف الكاتب


لا أحد يعرف على وجه الدقة متى تبدأ الأزمة، ولا إلى أين تنتهي. وفي اليمن عامة وعدن خاصة، لا تولد المآسي من الصدفة، بل تُربّى على مهل، كما يُربّى السرطان في الجسد دون ألم ظاهر، تُدار الكوارث كما تُدار صفقات الغرف المغلقة بدهاء، بصمت، وخلف ستائر من دخان، وعلى وقع مزامير الإعلام المأجؤر.


الوجوه تتبدّل، لكن اليد التي تُشعل الفتيل تبقى ذاتها، نعم فهي يدٌ تتقن عزف الفوضى، وتحوّل الاضطراب إلى نشيد وطني وشعارات ووعود بديلة لواقع أليم، تارةً بإسم الوطنية، وأخرى تحت شعار "السيادة"، وثالثة عبر خرائط مفخخة بعناوين التخوين، المناطقية، العنصرية، المحسوبية، أو حتى قطعة قماش تُدعى "العلم الوطني".


منذ أعوام، وبالذات بعد صيف حرب تحرير عدن 2015 والمواطن بعدن والمناطق المحررة يترنّح بين الأزمات كما يترنّح المخمور بين الكؤوس من طرف عدن لحدود الضالع ومن شرق المهرة لباب المندب، من نزاع على صراع على مصالح إلى ضرب الشعب بملف الخدمات وعلى رأسها الكهرباء، لم يوقف الأمر عند ذلك بل وصل إلى التراشق على الرواتب (المعاش) أو التعليم أو حتى حادث عرضي في شارع جانبي. كل أزمة لا تأتي بمفردها، بل تُنجب ألف شائعة، وتفتح ألف نافذة للانقسام فالإعلام المحلي وبعض القنوات العابرة للحدود تمارس طقوس التحريض كما يستحضر المشعوذ الأرواح، ثم ينزوي ليعدّ أرقام المشاهدات، ضاحكاً بنشوة الظهور.


ولكن وعلى ما يبدو فوضى ليس بفوضى وما يُعرض علينا على شكل عبث إعلامي أو ارتجال سياسي هو، في جوهره إدارة محسوبة، باردة تخطط وتنفذ بحساب دقيق. حيث أنها ليست العشوائية التي نراها بريئة أو نظنها وكما توهمنا شاشات الترفيه السياسي، بل هي خيوط محبوكة بإحكام، يعاد بها إنتاج الشلل يوميًا بألوان جديدة.


في وطني يُخضع المنطق للخرافة، ويراهن على فرسان ميتة، بحيث لا يمكن فهم ما يحدث بأدوات السياسة وحدها اليمن بأكملها شمالاً وجنوباً كما يعرفه الجميع، لا يخضع لقوانين السبب والنتيجة، بل لنزوات أفراد، بل لجنون المراحل، بل لأشباح تتنكر في هيئة زعماء وقادة.


هنا تكمن الكارثة حيث أننا لسنا أمام أزمة محددة يمكن إدارتها أو تجاوزها، بل أمام "فن" دقيق لصناعة الأزمات. نلامس ونستشعر ذلك من خلال صخب السياسة، وتفجّر الفضائيات، وتقلب التحالفات، نعم أننا لسنا سوى فصول في مسرحية محكمة العنوان: "كيف تستهلك دولة دون أن تسقطها؟"


وهذا ليس تخميناً، بل سياسة موثّقة، ظهرت بوضوح فيما سُمّي لاحقاً بـ"محاضرة الإبادة البطيئة"، التي قدمها البروفسور ماكس مانوارينج، أحد أبرز منظري حروب الجيل الرابع، أمام ضباط الناتو عام 2013 وما قاله ليس اجتهاداً بل خطة

حيث قال: لا تسقط الدولة بضربة، بل إنهاكاً، تفككاً، تشظّياً، وذلك عبر التجويع والتخويف والتشكيك، وينفذ بأيد محلية ومباركة خارجية.


نعم قالها مانوارينج ببرود قاتل: "دع أبناء الدولة ينهكونها نيابة عنك"، وهكذا صارت الفضائيات، والقنوات، والخطابات، والحروب النفسية أدوات تنفيذ ذكية لسيناريو لا يحتاج رصاصة واحدة.


في بلادي لا أحد يريد للدولة أن تُبنى، نعم فالدولة هنا ليست مشروعاً سياسياً أو اقتصادياً، بل لغزاً يُراد له أن يظل مفتوحاً وما التحالفات والتشكيلات والانشقاقات التي تُعقد فوق أنقاض الثقة، والخطابات التي تنطق بإسم الوطن وتُدار من خارجه في العلن وعلى مرأى العالم، أننا أمام أوجه تظهر الوطنية والإنتماء حتى النخاع للعلن، وفي السر تُعقد صفقات لا قبل للمواطن بها ولا علماً له ولا رأياً ولا مصلحة فيها، صفقات تتجاوز الخزينة، وتتجاوز السيادة، وربما تتجاوز خريطة البلد بذاته.


تتحدث الأطراف عن الانقلاب وعن المؤامرة وكأنها تحذر منها، بينما هي من تعد لها المسرح،

أننا في كارثة سياسية أنه من يحكم لا يملك القرار، ومن يملك القرار لا يظهر، ومن يتحرك لا يجرؤ على كشف اسمه، وهناك دائماً ظلّ كثيف لا يكشف عن ملامحه، لكنه يتحكم في الإيقاع: نعم لانه يُشعل فتنة، يُطفئ أزمة، يدفع بقانون، ثم يسحب دعمه فجأة.


وفيما المجتمع يتأرجح بين العزوف واليأس، وبين الحيرة والتحريض، يتحول المواطن إلى متلق منهك، يركض خلف تفسير منطقي لا يجده لأنه ببساطة لا منطق في العبث المنظّم، "حسب نيتشه"، فلا يمكن تحليل الهراء بالعقل، خاصة حين يصبح الهراء خطاباً يومياً تعيشه أمة وبلد بأكمله.


المنصات التي نظنها "حرّة" ليست كذلك إنها غرف تحكم. ساحة توجيه لا نقاش عوضاً عن أن تكون الدولة مؤسسة، تحوّلت إلى كابوس مفتوح بدل أن نُبني نُستهلك، بدل أن نحلم نرتجف.


ويُطرح السؤال مرة تلو أخرى: لماذا لا ينهار هذا النظام دفعة واحدة ؟

لماذا هذا الانهيار بالتقسيط ؟ والإجابة أكثر رعباً: لأن السقوط المفاجئ يُتيح فرصة للبناء، أما السقوط البطيء، فمحْوٌ كامل، واستبدالٌ بلا شهود ولا أثر.


نحن لا نعيش صراعاً سياسياً، بل إبادة معنوية، تمزيق بطيء للنسيج الوطني وفي قلب هذه المسرحية السوداء، يجلس صانعو الخراب، يأكلون ويشربون ألذ ما طاب في ظل القصور، يضحكون على موتنا البطيء، وهم يعلمون أن الضحية فقدت حتى القدرة على تمييز القاتل من الصديق.


أما الحقيقة، فهي الوحيدة التي تُهمس ولا تُقال: لا أحد بريء نعم فلا أحد آمن، فكل من صمت، أو برّر، أو انتفع، هو شريك في لعبة الإبادة الرمزية التي نعيشها.


هكذا تُدار الأزمات في بلادي فاليوم: لا نهاية واضحة، لا أفق قريب، ولا إصلاح يسير في طريق مستقيم ليس لأن البلاد عقيمة، بل لأن هناك من لا يريد لها أن تحبل بالأمل، لا يريدون للمواطن أن يحلم، ولا للغد أن يُولد، ولا للرجاء أن يجد له شرفة.


إنهم لا يخافون من الخراب، بل من التعافي، لا يرتعبون من الأنين، بل من نهضة نادرة بدأت تشق الطريق وسط الركام، حين شاهدوا أن البلد رغم كل شيء فهو يريد أن ينهض، يريد أن يتعافى، يريد أن يكتب فصلاً جديداً بلغة غير لغتهم، لكنهم أعادوا إنتاج النص القديم: والذي هو مزيد من التشكيك، مزيد من التحريض، مزيد من صناعة الأزمات.


يريدون لعدن بالذات أن تبقى مسرحاً لا يُطفأ فيه الضوء، تُعاد فيها الفصول بوجوه متغيرة، ونصّ واحد محفوظ في خزائن الخراب: "فن صناعة الأزمات". لكنهم في أعماقهم، يدركون أن النص قد يشيخ، وأن الجمهور قد ينهض يوماً، لا ليصفق، بل ليغادر.