آخر تحديث :الأحد-23 نوفمبر 2025-12:19ص
أخبار المحافظات

الصريب في لحج… ذاكرة تعب تصنع الخبز والفرح

السبت - 22 نوفمبر 2025 - 11:15 م بتوقيت عدن
الصريب في لحج… ذاكرة تعب تصنع الخبز والفرح
لحج / كتب ـ ياسر المقبلي معرار

في جنوب اليمن وتحديدا في دلتا تبن بمحافظة لحج ما زالت ذاكرة الناس تحمل صورا من زمنٍ كانت فيه الحياة بسيطة والعمل شاقا، ولكن الأرواح عامرة بالرضا. من بين تلك الصور تبرز مهنة الصريب؛ إحدى أبرز ملامح التراث الزراعي في المنطقة، حيث كانت النساء يقمن بدور حيوي في جمع “السبول” من حقول القمح في أيام يختلط فيها التعب بالكرامة، والفرح بالكدح.


ومن خلال استذكار الماضي الجميل لأهالي لحج كما وثقه الأستاذ جمال سالم ندرك قيمة هذا التراث ونفهم كيف ساهمت النساء في الحفاظ على الحياة اليومية وبناء كرامة المجتمع مما يجعل هذا الموضوع أكثر قربا ووضوحا للقراء اليوم.


*في الفجر الأول*

كانت “الصّرابات” يخرجن مع الفجر قبل أن تشتد حرارة الشمس وهن يحملن الأچب المصنوعة من عسب النخيل. لم تكن تلك الأجب مجرد أدوات، بل كانت رمزا للمرأة اللحجية التي تعمل بصمت، وتواجه الحياة بقوة لا تشبه سوى نفسها.


تصل النساء إلى منطقة أعلى الحقول حيث كان المكان المعروف باسم صوم الدهل يجمعهن. هناك وبين أصوات العصافير ورائحة الأرض المبتلة بالندى، يبدأ يوم طويل، لكنه يبدأ بفرح… إذ لم يكن من عادة الصرابات أن يبدأن العمل قبل المحجرة والرقص اللحجي فالرقصة كانت وسيلتهن لطرد التعب، وفتح باب النهار على ابتسامة.


*روح الصريب… العمل الذي يصنع الخبز*

في الصباح تنطلق النساء إلى الحقول، فيبدأ الصريب وهو جمع السبول المتبقية بعد الحصاد تتحرك الأيدي بخفة وكأنها تعرف كل سبلة باسمها وبين حين وآخر، تقوم النساء بـ مرح بعض الحبوب داخل الأچب باستخدام أعواد القصب، فيمزجن اللعب بالتعب، لتبقى الروح خفيفة رغم مشقة النهار.


كان الصريب عملا شريفا، لكنه لم يكن دائمًا منصفا. فقد كان بعض المزارعين ينتقصون من العشى — أي نصيب النساء — فإذا شعرن بالظلم، ارتفع صوتهن بعبارة أصبحت جزءا من تراث لحج:


*واحاج بيت الله… خلي الظلامة*

صرخة تحمل ألما وفي الوقت نفسه تحمل إيمانا يطلب العدل من الله قبل الناس.


*العشى… ميزان الكرامة*

مع العصر يجمع السبول في مكان يسمى الوصر ليأتي المعشي ويوزع الحصص كانت النساء ينظرن إلى حصتهن وكأنها ميزان لكرامتهن وإن اكتشف المعشي شيئا من “المرح” الزائد داخل الأجب يكبه فوق الوصر دون تردد فتقول النساء بصوتٍ لا يخلو من تحد:


*خاف الله يا ظالم!”*

كلمات قليلة… لكنها كانت بمثابة ميثاق شرف بين العاملات والرجال.


*ليل الطحن… وصنع الحياة*

بعد يوم طويل تعود النساء إلى بيوتهن يفترش التعب أجسادهن لكنهن لا يتوقفن ففي الليل يبدأ عمل آخر: لبج الحب ثم طحنه تجهز المطحنة توقر باللويسك ويرتب الودي ذو الوجهين الخشن والأملس ويبدأ الطحن: جرشة، سدفة، تدقيق، حتى يصبح الدقيق ناعما، أبيض، يشبه نقاء القلوب التي طحنته.


*تراث لا يجب أن يذوب*

مهنة الصريب ليست مجرد عمل زراعي بل قصة صبر وكرامة إنها صورة للمرأة اللحجية التي صنعت الحياة بيديها وأطعمت أبناءها من تعبها ورغم أن الزمن تغير والمهن تبدلت إلا أن روح الصريب ما زالت تسكن ذاكرة لحج روح العمل الشريف… والتكاتف… والفرح الذي يولد من قلب المشقة.


ومن خلال الجهود القيمة للأستاذ جمال سالم في توثيق هذا التراث واستذكار الماضي الجميل لأهالي لحج نستطيع اليوم أن نفهم هذا العمل ليس كوظيفة فقط بل كحكاية كرامة وإرادة وكنز حضاري يجب أن نحافظ عليه للأجيال القادمة.