آخر تحديث :الأحد-07 سبتمبر 2025-03:29م
أخبار وتقارير

بعد شهرين من استقرار الصرف في العاصمة المؤقتة عدن: هل هبطت الأسعار فعلاً أم بقي الغلاء على الرفوف؟

الأحد - 07 سبتمبر 2025 - 12:15 م بتوقيت عدن
بعد شهرين من استقرار الصرف في العاصمة المؤقتة عدن: هل هبطت الأسعار فعلاً أم بقي الغلاء على الرفوف؟
((عدن الغد))خاص

على مدى أشهر الأزمة السابقة كان الشارع العدني يعيش معادلة قاسية: دولارٌ يصعد، وسلعٌ تقفز معها بلا سقف، ورواتبٌ جامدة عند حدود العجز، فتتحول كل زيارةٍ للسوق إلى اختبارٍ للأعصاب قبل الجيوب. كانت الأسر تُعيد صياغة يومها بالكامل: تقليص الوجبات، تأجيل الدواء، تأخير رسوم المدارس، والبحث عن أرخص وسيلة مواصلات ولو على حساب الوقت والراحة. في تلك الفترة تشكلت طبقة اجتماعية جديدة عنوانها “الهشاشة الدائمة”: دخلٌ لا يغطي الأساسيات، وتجارٌ يربطون التسعير على مدار الساعة بشاشات الصرف، وسلسلة توريدٍ تتذرع بكل عائقٍ لتبرير كل زيادة. على هذا الأساس النفسي والاقتصادي تراكمت “توقعات تضخمية” لدى الناس ولدى السوق معاً: المشتري يتوقع مزيداً من الغلاء فيشتري أقل، والبائع يتوقع كلفة أعلى فيسعّر أعلى، وهكذا يدور الدولاب في اتجاهٍ واحد.


حين هدأ سعر الصرف خلال الشهرين الأخيرين، بدا وكأن لُعبةُ السوق ستنعكس تلقائياً: العملة تتحسن إذن الأسعار تنزل. عملياً حدث جزء من ذلك في سلةٍ محدودة من السلع: انخفضت أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية نسبيّاً، تراجعت كلفة الوقود بنسبٍ اختلفت بين محطةٍ وأخرى، ظهرت تخفيضاتٌ متفرقة في الأدوية والمستلزمات الطبية، وهدأت تعرفة النقل في بعض الخطوط ساعاتٍ وأياماً قبل أن تعود إلى مستوياتٍ وسطى. هذا التحسن الجزئي محسوس، لكنه ليس شاملاً ولا مستقراً بعد؛ إذ ما تزال قطاعاتٌ عديدة، وفي مقدمتها المطاعم السياحية ومتاجر العلامات اللامعة وبعض شبكات التجزئة الكبيرة، تُبقي أسعارها في الأعلى، وتستبقي هوامش ربح الأزمة حتى في زمن الاستقرار. والنتيجة الميدانية أن المواطن لم يلتقط “أنفاس التعافي” بالقدر الذي وُعِد به: فاتورة السلة الشهرية ما تزال ثقيلة، بينما دخل الأسرة لم يتحرك.


لماذا لا تهبط الأسعار بالسرعة التي ارتفعت بها؟ اقتصاديةُ الظاهرة مفهومة لكنها موجعة. أولاً، هناك ما يسمى “صلابة الأسعار نزولاً”؛ فالشركات تُقاوم تخفيض قوائمها لأن ذلك يكشف هوامش الربح ويصعّب رفعها لاحقاً. ثانياً، يعيد التجار تسعير مخزونٍ تم شراؤه بالدولار المرتفع، ويشترطون نفاد المخزون قبل أي تخفيض؛ وحين يُسألون عن السبب يقولون: “الدفعة دي اشتريناها بسعر قديم”. ثالثاً، التعاقدات الخارجية والشحن والتأمين بالدولار تُسعَّر بأسعار آجلة، أي أن أثر التحسن في الصرف يمر عبر “أنبوب زمني” يحتاج من 4 إلى 8 أسابيع ليظهر على الرف، وأحياناً أكثر. رابعاً، سلاسل التوزيع المحلية غير تنافسية بما يكفي؛ بضعة مورّدين كبار قادرون على التنسيق الضمني أو العلني، فتتحول السوق إلى “أوليغوبول” يحدد السقف من فوق. خامساً، ضعف المعلومات الرسمية يحجب عن المستهلك “سعر المرجع” العادل، فلا توجد لوحة أسبوعية موثوقة تلزم السوق بنطاقات سعرية، فتزداد الفوضى.


يضاف إلى ذلك أن الرقابة الحكومية، على أهميتها، ما تزال متقطعة وضعيفة التأثير. فالمستهلك يسمع عن “حملات نزول” و”لجان تفتيش” لكنه نادراً ما يرى أثرها المستدام في الفواتير. إذ يغيب الضبط الكمي للعقوبات، وتندر الإغلاقات لعدم الالتزام، وتغيب “قوائم بيضاء” تُكافئ المنشآت الملتزمة بالتخفيضات عبر تسهيلات ضريبية أو أفضلية في المناقصات. ومع كل جولة تفتيش يمكن للمتلاعبين الهروب نحو هامشٍ جديد: كتابة فواتير غير مفصلة، تغيير أسماء السلعة، أو التذرع بجودةٍ أعلى. في المقابل، يلتزم جزء من التجار الشرفاء بالتخفيض، لكنهم يخسرون زبائنهم لصالح منافسين يبيعون بذات السعر القديم ويقدّمون دعايةً صاخبةً وخدماتٍ جاذبة، فيسود “عدم تكافؤ” يثبط الملتزم ويُغري المتلاعب.


القطاع المطعمي والسياحي مثالٌ واضح على فجوة التسعير. كلفة المواد الخام فيه هبطت جزئياً، لكن قوائم الطعام بقيت على حالها تقريباً، وتوسع “ضريبة الخدمة” و”رسوم التغليف” و”بدل التوصيل” لتعيد السعر النهائي إلى أعلى مما كان عليه. يبرر أصحاب المطاعم ذلك بارتفاع الإيجارات، والرواتب، والكهرباء الخاصة، لكن هذا التبرير ينهار حين نُقارن بين مطاعمٍ متشابهة تتحمل التكاليف نفسها، ومع ذلك يخفض بعضها 10–15% ويحافظ على الجودة، بينما يصر البعض الآخر على أسعار الأزمة وهوامشها. هنا تظهر أهمية المقارنة العلنية والشفافية: حين يعرف الزبون الفارق، تصوّت قدماه لمحلاتٍ عادلة، فتُضطر بقية السوق للحاق.


في قطاع الأدوية، تحسنٌ محسوب لا يرقى لتخفيف المعاناة. جزء من المشكلة مرتبط بعقود الاستيراد بالدولار الآجل، وجزءٌ آخر بضعف تسعيرةٍ رسمية نافذة تُحدَّث دوريّاً وتُنشر على نطاقٍ واسع. وبين هذا وذاك، يظل المريض الحلقة الأضعف؛ يدفع فرق السعر أو يؤجل العلاج. التعميمات على الورق لا تكفي؛ المطلوب لوائحُ أسعارٍ ممهورة بختم رسمي ومحدثة أسبوعياً، تُلزم الصيدليات وتُتيح للمستهلك التحقق فوراً عبر رمزٍ إلكتروني على الفاتورة.


وماذا عن الوقود؟ التحسن الملحوظ في بعض المحطات لم يتحول إلى “مرساة” لأسعار النقل والبضائع. كثير من خطوط النقل الداخلي والخارجي تُبقي التعرفة مرتفعة؛ وخطوط النقل الثقيل تُحافظ على أجورٍ تعكس زمن الدولار المرتفع، بحجة قطع الغيار والزيوت ورسوم نقاط الطريق. هذا الانفصال بين كلفة الوقود وتعرفة النقل ينتقل تلقائياً إلى رفوف المتاجر؛ فبضائعٌ كثيرة تُسعَّر على أساس “وصلتني بكذا” حتى لو كانت شاحنة اليوم دفعت وقوداً أقل.


هل استفاد الناس إذن من استقرار الصرف؟ الجواب الدقيق: استفادوا جزئياً وفي هوامش محدودة، لكن الأثر على معيشة الأسرة لم يبلغ العتبة التي يشعر معها المواطن بأن الفارق حقيقي. السبب ليس في سعر الصرف وحده، بل في “ممرات انتقال السعر” المسدودة أو البطيئة: نقص المنافسة، ضعف الرقابة، تعقيد سلاسل التوريد، وقلة المعلومة. وحين تتآزر هذه العوامل، يتحول تحسين سعر الصرف من “رافعةٍ عامة” إلى “مكسبٍ محصور” يلتقطه طرفٌ في السلسلة دون سواه.


ماذا على الحكومة والسلطات المحلية أن تفعل؟ البداية من الاعتراف بأن إدارة الأسعار ليست حفلة نزولٍ إعلامية بل منظومة بياناتٍ ومساءلةٍ يومية. المطلوب إنشاء “مرصد أسعار” في محافظة عدن يصدر كل أسبوع “سلة مرجعية” لـ 30–40 سلعة وخدمة أساسية بنطاق سعر عادل (حد أعلى وحد أدنى) مرتبطين مباشرةً بمنحنى الصرف. تُنشر السلة في موقعٍ إلكتروني وحساباتٍ موثوقة، وتُعلّق مختصرة على واجهات المتاجر الكبيرة والصيدليات ومحطات الوقود. يترافق معها “فواتير ذكية” تحمل رمز QR يمكّن المستهلك من التحقق من سعر المرجع والتبليغ الفوري عن المخالفة بصورة الفاتورة. تُصمم عملية البلاغات بحيث تصل إلى غرفة رقابةٍ موحدة تُنسق بين الصناعة والتجارة، حماية المستهلك، والسلطات الأمنية، مع تتبعٍ آني لحالة البلاغ، وإشهارٍ أسبوعي لنتائج التفتيش والعقوبات.


ثانياً، يجب تحويل الرقابة من موسمية إلى مستمرة، ومن رد الفعل إلى إدارة المخاطر. هذا يقتضي خرائط حرارةٍ للسوق تحدد “بؤر التلاعب”—قطاعات ومنتجات ومحلات بعينها—وتُخصص فرقاً متنقلةً بسلطة ضبطٍ وعقوباتٍ فورية. وتُستكمل المنظومة بآلية “المطابقة العكسية”: مقارنة فواتير الاستيراد (أو بيانات الجمارك) بكشوف البيع بالتجزئة؛ عندما يُظهر الربط الآلي هوامش ربحٍ خارج المنطق، تتحرك الرقابة فوراً. هذا ليس ضرباً من الخيال؛ يمكن البدء بأبسط الأدوات المتاحة ثم البناء تدريجياً.


ثالثاً، يجب مكافأة الملتزم لا معاقبة المخالفين فقط. تُنشأ “قائمة بيضاء” للتجار والمنشآت الملتزمة بنطاقات السعر المعلنة وبشروط الفوترة الشفافة، تمنحهم امتيازاتٍ عملية: أولويةٌ في التراخيص، تسهيلاتٌ في التخليص، وإشادةٌ علنية في التقارير الأسبوعية. المنافسة على السمعة عنصر ضغطٍ فعّال، خصوصاً في مدينةٍ تنقل أخبارها بسرعة.


رابعاً، لا بد من فتح “نافذة استقرار” للاستيراد الحيوي بالتنسيق مع البنك المركزي: خطوط تمويلٍ قصيرة الأجل أو مزادات عملةٍ مخصصة لسلع السلة المرجعية، تُربط بشروطٍ واضحة لتمرير التخفيض للمستهلك (إلزام تسعيرٍ وفوترةٍ ورقابة لاحقة). كلما قُصّر المسار بين تحسن الصرف وفاتورة الأسرة، زادت مصداقية السياسات النقدية والرقابية معاً.


خامساً، في النقل، تُعلن تعرفة مرجعية مرتبطة بسعر الوقود المعلن، مع آلية تعديلٍ شهرية تلقائية، ويُشترط إبراز جدول التعريفة في الحافلات والنقاط، وتُفعّل خطوط تبليغٍ فورية عن التجاوز. أما في المطاعم السياحية، فتُلزم القوائم بإظهار “السعر قبل/بعد” لشهرين متتالين بعد أي تحسن للصرف يتجاوز عتبةً محددة (مثلاً 10%)، لمنع إعادة تدوير هوامش الأزمة.


أما دور المجتمع والإعلام، فمحوري في كسر “ثقافة الاعتياد”. التوثيق اليومي لفواتير قبل/بعد، وخرائط أسعار يشارك بها المواطنون، وتقارير أسبوعية تسلط الضوء على أماكن أنصفت المستهلك، تُغيّر سلوك السوق أسرع مما تفعل مداهماتٌ متقطعة. هنا يمكن لصحيفة عدن الغد أن تقود مبادرة “سلة المواطن”—ملفاً أسبوعياً يُنشر فيه متوسط أسعار 20 سلعة أساسية على مستوى المديريات، مع قصصٍ مصورةٍ من المتاجر الملتزمة والمتلاعبة على حد سواء. التسمية والتمدّح أقوى أحياناً من الغرامة.


يبقى سؤال العدالة الاجتماعية: حتى مع انخفاضٍ جزئي للأسعار، فإن دخل الأسرة لم يتحسن؛ موظفو القطاع العام وسواهم يقفون في المنتصف بين مطرقة قائمة المشتريات وسندان الإيجار، والكهرباء، والمواصلات. لذلك يجب أن تسير سياسات ضبط السوق بالتوازي مع إجراءات حمايةٍ اجتماعيةٍ ذكية: قسائم غذاء للأسر الأضعف مرتبطة بالبطاقة الشخصية والرقم الوطني، تخفيضاتٌ على الأدوية المزمنة، وتعرفةٌ اجتماعيةٌ للكهرباء ضمن شريحة الاستهلاك الأدنى. هذا لا يعالج السوق فحسب، بل يحمي الثقة العامة بينما تعمل الآليات الرقابية على إكمال أثر استقرار الصرف.


خلاصة الأمر أن استقرار سعر الصرف هو شرطٌ ضروري لكنه غير كافٍ لعودة الأسعار إلى المعقول. السوق لا تتحرك بالآمال ولا بالنوايا، بل بقواعد شفافة، ومعلومات متاحة، ومنافسةٍ فعلية، ورقابةٍ تُرى نتائجها في الفاتورة لا في التصريحات. نعم، هناك تحسنٌ ملموس في بعض السلع والخدمات، لكن التلاعب ما يزال على أشده في قطاعاتٍ بعينها، وفي مقدمتها المطاعم السياحية وبعض شبكات التجزئة، تحت مظلة رقابةٍ حكوميةٍ متعثرة وتعدد أطرافٍ مستفيدة. الإجابة الأمينة على سؤال: “هل استفاد الناس؟” هي: استفادوا قليلاً، ويمكن أن يستفيدوا كثيراً إذا انتقلت السلطات من إدارة الأزمة إلى إدارة السوق؛ من الزيارات إلى المنظومات؛ ومن الكلام إلى الأرقام. عندها فقط سيشعر الناس بأن كل نقطة تحسن في سعر الصرف صارت رغيفاً أرخص، ودواءً أقرب، ووجبةً لأسرةٍ كانت تحسب الأيام على أصابعها.