آخر تحديث :الأحد-23 نوفمبر 2025-12:19ص

مأرب.. عبور الصمت المُسَلّح

السبت - 22 نوفمبر 2025 - الساعة 10:26 م
حسين الصغير

بقلم: حسين الصغير
- ارشيف الكاتب


ها هي مأرب، المدينة التي اعتادت أن تُفاجئ خصومها كلما ظنّوا أن قبضة الظلام قد أحكمت حولها. في لحظةٍ فارقة تتقاطع فيها الجرأة مع الذكاء الأمني، امتدّت يدها إلى قلب صنعاء نفسها، إلى المكان الذي ظنّ العدو أنه حصنه الأخير، لتقتاد منه رئيس خلايا الاغتيالات والتفجيرات؛ الرجل الذي ظلّ لسنوات يحرّك خيوط الدم من خلف الستار.


لم تكن العملية مجرّد إنجاز أمني فحسب، بل كانت بيانًا صامتًا: أن اليد التي تحرس مأرب لا ترتجف، وأن العيون الساهرة لا تنام، وأن إرادة الحياة قادرة على اختراق أكثر المتاريس ظلمةً وجبروتًا.


بهذه الخطوة الجريئة، أعادت مأرب رسم خارطة الصراع، وقالت للعلن إن المعركة ليست سلاحًا فقط، بل عقلًا يخطط وقلبًا لا يخشى.


كان المشهد أشبه برحلةٍ ولدت من صلب المخاطرة، رحلة تُزاحم فيها الأنفاس ظلال الخوف، ويختلط فيها العرق بصوت الريح، ويتحوّل فيها الإنسان إلى كائن يقف على حافّة قدره، يختبر إرادته وجرأته في آن واحد.


المشهد كان أقرب ما يكون إلى المعجزة، ليلٌ يتنفس بطيئًا، شيءٌ من السكون يوشك أن ينفجر، ومدينةٌ معادية تنام على ظنٍّ كاذب بأنها محروسة بما يكفي. وفي قلب هذا الليل، تحرّك الأبطالُ ظلٌّ خلف ظل، وأنفاسٌ معلّقة بين الخطر والواجب.


كانوا يعرفون أن منزلَ رئيس خلايا الاغتيالات ليس بيتًا؛ بل فخًا محكمًا، عشّ دبابير لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه. لكن الخطوات التي تجرّأت على عبور عتبته، لم تكن خطوات عادية؛ كانت خطوات رجال يعرفون أن التاريخ لا يفتح أبوابه إلا لمن يطرقها بقلب لا يرتجف.


تقدّموا بصمتٍ مدجّج بالتركيز، كأن الليل نفسه يتنحّى ليمنحهم ممرًا. الأسلحة تُمسك بهم كما يمسك القدرُ بخيوط المصائر، ونظراتهم لا تبحث عن نصرٍ صغير، بل عن ضربةٍ تقلب موازين مدينة بأكملها.


حين اقتربوا من المنزل، كانت الأبواب والنوافذ تتنفس خوفًا. في الداخل، كان الرجل الذي أدار الدم كأنه يدير تجارةً باردة، ينام مطمئنًا لسطوته، لا يدري أن عدالةً حاسمة تتسلل الآن كموجةٍ سوداء نحو غرفته.


بسرعةٍ خاطفة، وبحركةٍ تشبه انقضاض صقرٍ على فريسته، اخترقوا عقر العدو. دوّى صمتٌ صلد قبل أن تتكسّر ثواني المفاجأة. لم يكن هناك صراخ؛ فقط ارتباكُ رجلٍ أدرك متأخرًا أن الليل خانَه، وأن أحلام الحماية التي عاشها كانت قشًا أمام عاصفة الرجال.


قُيّد وهو لا يزال يفتّش في عيني أحدهم عن تفسير. لكن الأبطال لا يشرحون.. الأبطال ينفّذون. أخرجوه من بيته كما يُنتزع السكين من جرح، قاطعًا أبرز شريان كان يغذي الخوف في سكون المدينة.


وفي طريق العودة، لم يكن النصر صاخبًا، بل صامتًا كما يبدأ كل فجرٍ حقيقي. كانوا يمشون وفي خطواتهم وقارُ من أسقط رأس الأفعى بلا ضوضاء.


لم تكن مجرد عملية؛ كانت درسًا في أن العدالة حين تلبس قناع الجرأة، تصبح أجرأ من كل جريمة، وأشدّ هولًا من كل ظلام.