في لحظة من لحظات الحنين، وبينما كنت أستمع إلى الأنشودة الوطنية الخالدة "بلادي بلادي"، اجتاحتني موجة من المشاعر العارمة، أعادتني إلى زمنٍ كانت فيه القلوب أنقى، والوجوه أصدق، والوطن أغلى، والصفاء والنفاء يبسط جناحيه على حياة المجتمع.
كانت تلك الأنغام العذبة كأجنحة نور حملتني إلى سماء عدن الصافية، إلى عام 1974، حين استقبلت المدينة الرئيس الليبي معمر القذافي، وكان في مقدمة مستقبليه الرئيس الإنسان _سالم ربيع علي_ ، المعروف بـ"سالمين".
ما زالت صورة سالمين وهو يستقبل القذافي ببدلته المتواضعة، راسخة في الذاكرة.
لم يكن يرتدي بزّة فخمة ولا يحيط نفسه بالبهرجة، بل وقف ببساطته المعهودة، شامخًا كالطود ، متواضعًا كالأرض، مهيبًا كالوطن.
لم يكن التواضع عنده تصنّعًا، بل طبعًا أصيلًا، ينبع من قلب رجل آمن أن القيادة ليست استعلاءً، بل مسؤولية.
انه سالمين... القائد الذي لم تغره الألقاب.
كان في حضوره ما يفرض الاحترام دون أن يطلبه، وما يدعو للوقوف إجلالًا دون أن يأمر به.
شعرت، وأنا أشاهده ، برغبة جارفة في أداء التحية العسكرية، لا لكونه رئيسًا فحسب، بل لأنه كان رمزًا للصدق والكرامة ، له هيبة لا تُشترى بل تُولد مع أصحابها.
أي سرٍّ ذاك الذي جعله قريبًا من الناس، ومع ذلك مهابًا في أعينهم؟!
زيارة القذافي لعدن لم تكن مجرد حدث سياسي، بل كانت لحظة تاريخية تجسدت فيها معاني السيادة والكرامة.
عدن، في تلك الأيام، كانت تنبض بالحياة، وتفوح منها رائحة الكبرياء الوطني.
كانت تستقبل القادة لا لتُبهرهم، بل لتُشعرهم أنهم في حضرة شعبٍ يعرف قدر نفسه.
انها عدن... يوم كانت عاصمة للكرامة.
*فقدان الكبار... غصة لا تندمل*
اليوم، ونحن نعيش في زمن تتبدل فيه القيم وتتراجع فيه الرموز، نشعر كم نحن مغبونون في فقدان رجالٍ كـ"سالمين". رجال لم يكونوا مجرد حكّام، بل كانوا ضميرًا حيًا للوطن، ومرآةً تعكس طهر الأرض وصدق الإنسان.
إن استذكار تلك اللحظات ليس بكاءً على الأطلال، بل هو تذكير بأن الأوطان لا تُبنى إلا على أكتاف الصادقين، ولا تُحترم إلا حين يقودها من يستحقون الاحترام.
فهل نعيد للوطن هيبته، وللصدق مكانته، وللتواضع قيمته؟
ملحوظة:
*شكراً للزميل عبد الرقيب الهدياني الضالعي الذي اهداني فيديو الاستقبال فأثار مشاعري.*