لم يكن يوم 21 سبتمبر 2014 مجرد تاريخ لانقلاب ميليشيا مسلحة على حكومة شرعية، بل كان يوم سقوط الدولة اليمنية بكل معانيها. كان يومًا أسودًا في ذاكرة اليمنيين، يومًا تحولت فيه أحلام الملايين بدولة مدنية عادلة إلى كابوس طويل المدى، يومًا انتصرت فيه الميليشيا على الوطن، والغنيمة على القانون، والكهنوت على الجمهورية. إنها النكبة التي أعادت اليمن عقودًا إلى الوراء، وأدخلته في نفق مظلم لا يزال يتسع كل يوم. لم يكتفِ الحوثيون بإسقاط حكومة منتخبة، بل أسقطوا معها كل ما تبقى من قيم وأخلاق وتقاليد وطنية. لقد كان انقلابهم في جوهره انقلابًا على فكرة الدولة الحديثة نفسها، وعلى فكرة المواطنة المتساوية، وعلى مفهوم الجمهورية الذي دافع عنه اليمنيون بدمائهم في ثورة 26 سبتمبر 1962. ما جرى في 21 سبتمبر لم يكن مجرد صراع على السلطة، بل كان ارتدادًا تاريخيًا إلى زمن الإمامة، حين كان الوطن محكومًا بعقلية عنصرية تستمد شرعيتها من النسب والدم، وتتعامل مع الشعب باعتباره مجرد رعايا لا مواطنين. حين اجتاح الحوثيون صنعاء، لم يحملوا معهم مشروعًا سياسيًا ولا برنامجًا وطنيًا، بل أعادوا إنتاج النموذج الإمامي القديم بأبشع صوره الحكم باسم “الحق الإلهي”، تقسيم المجتمع طبقيًا بين “سادة” و”عبيد”، السيطرة المطلقة على التعليم والإعلام لتربية أجيال مشوهة الهوية ومأسورة الفكر وتحويل الولاء من الوطن والدولة إلى “الأسرة المقدسة” إنه استنساخ كامل لحكم الأئمة، لكن بلغة معاصرة وسلاح حديث. نكبة 21 سبتمبر لم تكتفِ بسحق السياسة والقيم، بل ذبحت الاقتصاد من الوريد إلى الوريد. نُهبت الشركات والمؤسسات الخاصة والعامة بلا رحمة، فُرضت الإتاوات على التجار والمستثمرين حتى فرّ رأس المال الوطني إلى الخارج، تحولت الميليشيا إلى “مافيا” تدير اقتصاد السوق السوداء المشتقات النفطية، الغاز، الدواء، وحتى الغذاء وتم حرمان الموظفين من رواتبهم، لا لشيء إلا لابتزازهم وإخضاعهم. تحولت صنعاء وبقية المناطق الخاضعة للحوثيين إلى “سجون اقتصادية” يعيش فيها الملايين على حافة الجوع، فيما تعيش قيادات الميليشيا في بذخ غير مسبوق. إنها مفارقة تفضح مشروعًا لا يرى في الوطن إلا غنيمة، ولا يرى في الشعب إلا وسيلة للثراء والتمكين الطائفي. نكبة الحوثي لم تُدخل لليمن سوى ثقافة الموت الموت في الجبهات عبر تجنيد الأطفال، الموت جوعًا نتيجة الحصار الداخلي ونهب الموارد، الموت بالمرض بسبب انهيار المنظومة الصحية والموت قهرًا تحت وطأة الاعتقالات والمداهمات والانتهاكات اليومية. لقد تحولت المناطق الخاضعة للحوثيين إلى مسالخ مفتوحة، حيث الإنسان بلا قيمة، والحياة بلا معنى، وكل شيء يُدار بعقلية الحرب والاستعباد. من أخطر ما أفرزته نكبة 21 سبتمبر هو استهداف التعليم. فبدلاً من بناء مدارس حديثة أو تطوير المناهج، حول الحوثيون التعليم إلى أداة لغسل أدمغة الأطفال، وملأوا المناهج بخرافاتهم الطائفية وشعاراتهم السياسية. لم يعد الطالب اليمني يتعلم حب الوطن أو مبادئ الجمهورية، بل يتعلم الولاء لزعيم الطائفة وثقافة الكراهية والعنف. إنها جريمة طويلة المدى تستهدف هوية اليمن ومستقبله. رغم القمع والإرهاب والآلة الدعائية الضخمة، تتسع يومًا بعد يوم دوائر الرفض الشعبي لهذا المشروع الكهنوتي. ففي كل قرية ومدينة، هناك مقاومة صامتة ورفض متواصل. اليمنيون يدركون أن مشروع الحوثي لا يحمل سوى الفشل، وأنه لا يمكن أن يستمر في بلد يمتلك إرثًا جمهوريًا وثقافة ثورية ضد الاستبداد. إن ما فعله الحوثيون في 21 سبتمبر وما تلاه من جرائم، لا يمكن أن يُمحى من ذاكرة اليمنيين. لقد صنعوا وصمة عار ستظل تلاحقهم وتلاحق مشروعهم إلى الأبد. فالتاريخ لا يرحم، والشعوب لا تنسى. وإذا كان الأئمة قد حكموا قرونًا ثم سقطوا بثورة شعبية، فإن الحوثيين مهما طال بهم الزمن، لن يكونوا استثناءً من هذه القاعدة. اليمن اليوم بحاجة إلى إنقاذ عاجل، ليس فقط من الحرب، بل من عقلية الكهنوت التي دمرت كل شيء. بحاجة إلى مشروع وطني يعيد الاعتبار للجمهورية، ويستعيد الدولة، ويعيد بناء مؤسساتها على أسس العدالة والمواطنة المتساوية. بحاجة إلى أن يتحول 21 سبتمبر من يوم نكبة إلى يوم ذاكرة وطنية، تُروى فيه قصة كيف حاولت الإمامة العودة، وكيف أسقطها اليمنيون مرة أخرى. نكبة 21 سبتمبر ليست مجرد انقلاب على السلطة، إنها جريمة كبرى على الوطن والإنسان والتاريخ. لقد أعادت اليمن إلى زمن الفقر والمرض والجوع والاستبداد، لكنها في الوقت نفسه كشفت الوجه الحقيقي لمشروع الإمامة الكهنوتي. ورغم كل هذا الظلام، فإن يقين اليمنيين أن هذه النكبة لن تدوم، وأن الحرية والجمهورية ستنتصر كما انتصرت من قبل.