مجيب الرحمن الوصابي
تُبرِزُ مفردة (دحباش/ دحابشة) بوضوح ما نظّر له جورج لاكوف ومارك جونسون في الاستعارات التي نحيا بها؛ من أنّ اللغة اليومية ليست بريئة أو محايدة، بل تُجسّد آليات إدراكية تُبنى عبرها تصوراتنا للعالم والآخرين. فالكلمة انتقلت من اسم شخصية كوميدية إلى إطار معرفي (Frame) يجسّد الشمالي في المخيال الجنوبي، بحيث أصبحت الاستعارة المفهومية الضمنية: (الشمالي = دحباش (وبموجب هذا التحويل، يجري إسقاط صفات سلبية مستهجنة: السطحية، الجشع، التخلف، الميل للعنف على جماعة بشرية بأكملها؛ هنا تعمل الاستعارة كاختزال إدراكي معقّد يبسّط الواقع التاريخي والسياسي، ويعيد إنتاج الهوية الجهوية وفق ثنائية (نحن/هم) أو (الذات والأخر)
وإذا توسّعنا في الفضاء العربي، نجد أنّ هذه الآلية ليست حكرًا على اليمن؛ فالخطاب الشعبي والسياسي العربي غنيّ باستعارات مماثلة تُحوّل الجماعات إلى صور ذهنية نمطية من خلال لفظة واحدة. ففي مصر مثلاً: استُخدمت لفظة (الفلّاح) للإشارة إلى البساطة حدّ السذاجة أو التدني الطبقي، وهو ما يعكس استعارة مفهومية تجعل الفلاح = المصري البسيط، المطيع، مع أنّ الواقع أكثر تعقيدًا وتنوعًا. كذلك نجد في المغرب العربي توصيف الشاوي أو البربري كمجازات تختزل سكان الجبال أو الأمازيغ في صورة التخلف والغلظة، في مقابل (العربي) الذي يُستعار له قاموس الحضارة أو الهيمنة.
هذه الأمثلة تكشف أنّ الاستعارات المفهومية العربية، سواء دحباش أو فلّاح/ شاوي، أو الخضيري/ البدون ، خادم/ أخدام؛ البدوي وبعض الاستعارات المتبوعة بلفظة (قُح) مثل بدوي أو قروي؛ وكلها تشترك في ثلاث وظائف أساسية:
1. التجسيد (Personification): تحويل هوية جمعية إلى شخص أو صورة كاريكاتورية يسهل تداولها.
2. الإقصاء (Exclusion): إنتاج (آخر) موصوم يُبرر التمييز أو العنف الرمزي ضده.
3. التبسيط (Simplification): اختزال تعقيدات التاريخ والسياسة في صورة ذهنية أحادية الجانب.
وبذلك، يمكن القول إنّ (دحباش) ليست سوى حالة ضمن منظومة أوسع من الاستعارات المفهومية التي تنتجها الثقافة العربية في سياقات الصراع الجهوي أو الطبقي أو السياسي، حيث تتحوّل اللغة إلى أداة لإعادة تشكيل المخيلة الجماعية، وتتحول الاستعارة من مجرد بنية لغوية إلى بنية معرفية تؤطر العلاقات بين الذات والآخر، وتُسهِّل انتقال العنف الرمزي إلى العنف المادي...... وغيرها من الاستعارات المفهومية الخطيرة.
يتبع بإذن الله