آخر تحديث :الخميس-14 أغسطس 2025-07:09م

الوعي أولًا والنصر حتمًا

الثلاثاء - 12 أغسطس 2025 - الساعة 02:19 م
عبدالجبار سلمان

بقلم: عبدالجبار سلمان
- ارشيف الكاتب


في المشهد اليمني اليوم، شمالًا وجنوبًا، يخيّم السواد على الأفق، وتتجسد المأساة في شلل كامل يطال مفاصل الدولة والمجتمع على حد سواء. البلاد التي كانت يومًا ما مركزًا للحضارة والتاريخ، تعيش الآن واقعًا متصدعًا، تتنازعه الانقسامات والصراعات البائسة، ويثقل كاهله إرث من الحروب والخذلان السياسي. لكن، وسط هذا المشهد القاتم، يظل الأمل قائمًا، يتشبث بالحياة من خلال رهاننا على الوعي السياسي والاجتماعي، باعتباره الوقود الحقيقي لأي نهضة والخطوة الأولى نحو الخلاص. الوعي، في هذه المرحلة، ليس ترفًا فكريًا ولا خطابًا مثاليًا، بل هو ضرورة وجودية. فالتغيير لا يُمنح من خصومك أو من مراكز القوى التي صنعت الأزمة، بل يُنتزع انتزاعًا بإرادة حرة وعزيمة لا تلين. التاريخ لم يُكتب يومًا بأقلام المترددين، بل صنعه أولئك الذين قرروا كسر الجمود وحاجز الخوف، الذين اختاروا أن يكونوا بذور الأمل في أرض أنهكها الانتظار. الأصوات الوطنية الصادقة، سواء داخل الوطن أو في المهجر، هي اليوم رأس الحربة في معركة استعادة الدولة والكرامة. وجودها لا يقاس فقط بقدرتها على التعبير، بل بإصرارها على فرض الحضور الفاعل رغم المعادلات القديمة التي تحاول تكبيل أي مشروع وطني جديد. هذه الأصوات تعرف أن معركتنا الحقيقية تبدأ بتحرير العقول قبل تحرير الأرض، فالعقل المستعبد لا يبني وطنًا، بل يصبح أداة في يد من يهدمه. التغيير لا يُمنح، لا من الأمم المتحدة، ولا من عواصم القرار، ولا من القوى التي تعيش على استمرار الفوضى. التغيير يُنتزع بالقوة، لكن قبل قوة السلاح، نحتاج قوة الوعي. لأنك إن حملت البندقية بوعي، فأنت مقاتل من أجل الحرية، أما إن حملتها بجهل، فأنت مجرد أداة في يد عدوك. انظر حولك الميليشيات لا تحكم بالسلاح وحده، بل تحكم بالعقول المسلوبة. الحوثي لم يستطع أن يبني ترسانة عسكرية إلا بعد أن زرع في عقول البعض فكرة الولاء الأعمى، وحقنهم بخطاب ديني وسياسي مضلل، جعلهم يقتلون إخوانهم وهم يظنون أنهم على حق. الخطر الحقيقي ليس في سلاح العدو، بل في جهل أنصاره. الحقيقة المرّة أن مواجهة ميليشيا الحوثي أو أي مشروع استبدادي مشابه ليست فقط معركة بنادق، بل هي أولًا معركة وعي. فالشعب الواعي يقاتل معك من أجل حريته وكرامته، أما الشعب الجاهل فيقف حائلًا بينك وبين عدوك، يحميه من حيث لا يدري، ويقاتلك وكأنك أنت الخطر عليه. إننا نخوض اليوم معركة فاصلة على جبهتين جبهة الوعي، وجبهة السلاح. لكن الأولى تسبق الثانية زمنيًا ومعنويًا، لأن النصر العسكري دون وعي سياسي واجتماعي راسخ لا يدوم. التحدي الراهن ليس فقط في هزيمة الميليشيات ميدانيًا، بل في كسر منظومات التفكير التي جعلت البعض عبيدًا للفقر والخوف والدعاية المضللة. رهاننا إذًا على بناء وعي جمعي يضع مصلحة اليمن فوق كل ولاء ضيق، ويؤسس لمرحلة جديدة من تاريخ هذا البلد، مرحلة لا مكان فيها لسياسات النهب أو ثقافة الاستسلام. هذا الوعي وحده هو الذي سيحوّل المعركة من صراع عبثي إلى حرب تحرر حقيقية، ومن انتظار طويل إلى انتزاع للحقوق وصنع مستقبل يليق بتضحيات الأجيال. فالتاريخ، كما علمتنا التجارب، لا يرحم من يختار الوقوف على الهامش. واليوم، إما أن نكون في صف صانعي التغيير، أو نبقى أسرى للمشهد القاتم، ننتظر منقذًا قد لا يأتي أبدًا. رهاننا ليس على البنادق وحدها، بل على العقول التي تتحرر من قيود الجهل والتبعية، على الأصوات الوطنية الصادقة في الداخل والخارج، التي تعرف أن بقاء الوضع كما هو جريمة، وأن الصمت خيانة. هذه الأصوات هي الشرارة التي تضيء طريق الخلاص، وهي التي تدفع الناس إلى إدراك أن المعركة الحقيقية تبدأ من الرأس لا من فوهة البندقية. لن يتغير شيء إذا انتظرنا الحل من الخارج أو من قوى الماضي التي باعت اليمن مرات ومرات. التغيير يبدأ من الشارع، من الناس، من إصرارهم على انتزاع حقهم في العيش بكرامة، من يقينهم أن الكرامة لا تُشترى ولا تُستعطى، بل تُنتزع. إما أن نكون في صف صانعي التغيير، أو نعيش عبيدًا لجهلنا وخوفنا. إما أن نخوض معركة الوعي اليوم، أو نترك أبناءنا يخوضون معركة البقاء غدًا. هذه ليست معركة نخبة أو حزب، إنها معركة وطن، معركة أمة تريد أن تحيا. الوعي أولًا… ثم لمسة زناد، والنصر حتمًا.