آخر تحديث :الخميس-14 أغسطس 2025-07:09م

من أسقط الدولة اليمنية ؟

الثلاثاء - 15 يوليو 2025 - الساعة 10:38 ص
عبدالجبار سلمان

بقلم: عبدالجبار سلمان
- ارشيف الكاتب


ليس هناك سقوط مفاجئ للدول، بل انهيارات تتراكم على هيئة قرارات خاطئة، وشراكات خادعة، وصمت مريب في لحظات تستدعي الصراخ. هذا ما حدث في اليمن. لم تسقط الدولة بيد الحوثيين فقط، بل أسقطها الجميع، بدرجات متفاوتة من الفعل أو القصور أو التواطؤ. وهذا ما كشفته تصريحات عضو مجلس الشورى والقيادي في حزب الإصلاح صلاح باتيس، الذي ألقى الضوء بشجاعة سياسية نادرة على لحظات حرجة وقعت خلف الكواليس، حين كانت الدولة على شفا الهاوية، والرئيس ووزير دفاعه يتهربان من اتخاذ القرار المصيري. عبدربه منصور هادي، الذي كان يحمل الشرعية، لم يكن في لحظة الخطر على قدر المسؤولية. كان يُفترض أن يكون “قائد مرحلة”، لكنه تصرف كـ”موظف في قصر”، مرتبك، متردد، فاقد للرؤية، بلا أدوات حسم ولا خريطة طريق. حين اقترب الحوثيون من قلب صنعاء، لم يتخذ القرار المطلوب، وترك المؤسسات تنهار واحدة تلو الأخرى. حتى وزير دفاعه، محمد ناصر أحمد، ظل في موقع المتفرج حين كانت الدولة تتآكل، والميليشيا تتحرك بخطى واثقة. ليس لأنهما خانا الدولة، بل لأنهما لم يكونا مستعدين للقيادة في زمن استثنائي، فكان العجز أقسى من الخيانة. لكن الحكاية لا تكتمل دون ذكر علي عبدالله صالح، الذي لم يخرج من السلطة مهزومًا بقدر ما خرج غاضبًا، عازمًا على العودة بأي ثمن. كان يعرف مكامن القوة، ويحتفظ بمفاتيح الدولة العميقة، من شبكة عسكرية إلى قبائل ولاءات ومصالح. حين قرر التحالف مع الحوثي، لم يكن ذلك من باب التقارب العقائدي أو السياسي، بل كان انتقامًا ممن أخرجوه من الحكم، حتى لو احترقت الدولة. وهذا ما فعله نسّق، ساعد، مهّد، ثم وقف متفرجًا وهو يرى الدولة تنهار، فقط ليرى من كانوا في الساحة بعده، يسقطون. أما حزب الإصلاح، فلم يكن على الهامش. بل كان لاعبًا رئيسيًا بعد ثورة 2011. لكنه أخطأ التقدير. امتلك النفوذ، لكنه لم يمتلك المشروع. سيطر على مواقع في الدولة، لكنه لم يبنِ بها دولة. ظل يحاول إدارة التوازنات، يتجنب المواجهة، يهرب من اتخاذ المواقف الجذرية، حتى بدا في لحظة الحقيقة كيانًا بلا روح. وحين هاجمته القوى المعادية، لم يجد ما يدافع به عن نفسه، لا مؤسسات ولا تحالفات ولا خطاب يوحّد الجماهير خلفه. المشهد لا يكتمل دون تحليل دور القبيلة اليمنية، التي كانت على مدى عقود، أحد أعمدة النظام الجمهوري. لكن في لحظة انهيار الدولة، تحولت بعض هذه القبائل إلى أدوات بيد من يسعون لهدمها. استُخدمت مرتين مرة حين استدعاها صالح إلى صف الحوثيين مستخدمًا شبكة ولاءات قديمة مبنية على المال والسلاح، ومرة حين اخترقها الحوثي نفسه، فحوّل أبناءها إلى جنود في مشروعه الإمامي، إما بالترغيب أو بالإرهاب أو بعجز الدولة عن حمايتهم. وهكذا، تحوّل “الدرع” إلى “معول”، يسهم في الهدم، أو على الأقل لا يمانعه. حين ننظر إلى الوراء، لا يمكن تحميل طرف واحد مسؤولية السقوط. صحيح أن الحوثي هو من قاد الانقلاب واحتل مؤسسات الدولة، لكنه لم يكن ليصل إلى تلك المرحلة دون أن يُمهد له الطريق. عبدربه منصور هادي أخفق في القيادة، محمد ناصر أحمد تخاذل في الحسم، علي عبدالله صالح خان الجمهورية انتقامًا، حزب الإصلاح ضيّع الفرصة، والنخب السياسية ظلت مشغولة بالتحالفات والمؤتمرات والمناصب، حتى ضاعت الدولة. القبيلة إما صمتت أو باعت موقفها. وكل ذلك حدث بينما الخارج، إقليميًا ودوليًا، كان يتعامل مع اليمن كـ”ملف” قابل للتجميد أو الاستثمار. ما سقط في 2014 لم يكن فقط الدولة اليمنية، بل ما تبقّى من أمل في مشروع وطني جامع. وما يعيشه اليمن منذ ذلك التاريخ، ليس إلا نتيجة منطقية لسلسلة من الخيبات والخيانات والحسابات الضيقة. وربما أهم ما قاله صلاح باتيس، ليس فقط وصفه للخيارات التي لم تُتخذ، بل شجاعته في تحميل المسؤولية للجميع. وهذا هو الطريق الوحيد لتصحيح المسار الاعتراف، لا التبرير. كشف الحقائق، لا دفنها. لأن من لا يعترف بأخطائه، يعيدها. ومن لا يسمّي الأشياء بأسمائها، لن يعرف كيف ينهض من جديد. لا يمكن بناء مستقبل دون مواجهة صريحة مع ماضٍ مليء بالأخطاء والخطايا. لا أحد بريء بالكامل، لكن الذنب ليس واحدًا. هناك من أسهم بالقرار، وهناك من أسهم بالصمت، أو التواطؤ، أو العجز. اليوم، على النخب السياسية أن تمتلك شجاعة الاعتراف قبل المطالبة بإعادة البناء. لأن من لم يسمّ الخلل باسمه، سيكرره. ومن لم يُحاسب النفس، سيبقى يدور في ذات الدائرة المغلقة.