في الأشهر الماضية، تنفّس اليمنيون في المناطق المحررة الصعداء نسبيًا مع استقرار سعر الصرف عند حدود تقارب 428 ريالًا يمنيًا مقابل الريال السعودي، وهو مستوى منح الأسواق قدرًا من الهدوء بعد سنوات من الانهيار المتسارع. هذا الاستقرار انعكس في حينه على أسعار عدد من المواد الغذائية الأساسية، التي شهدت تراجعًا محدودًا لكنه ملموس، وأعطى انطباعًا أوليًا بأن الاقتصاد، رغم هشاشته، قادر على التقاط أنفاسه إذا توفرت إدارة نقدية مستقرة.
غير أن هذا التفاؤل لم يدم طويلًا. فخلال الأسابيع الأخيرة، عادت أسعار المواد الغذائية للارتفاع مجددًا، دون أن يقابل ذلك أي تدهور مماثل في سعر الصرف، ما فتح باب التساؤلات حول الأسباب الحقيقية لهذا الغلاء، وحول الجهات المسؤولة عن ضبط الأسواق، وفي مقدمتها وزارة الصناعة والتجارة، ودور السلطات المحلية في حماية المستهلك من موجات رفع غير مبررة.
اقتصاد المناطق المحررة يعتمد بشكل شبه كامل على الاستيراد، ما يجعل سعر الصرف عاملًا محوريًا في تحديد الأسعار. لكن التجربة الأخيرة كشفت بوضوح أن استقرار العملة وحده لا يكفي لضبط السوق. فهناك فجوة واسعة بين تحسن المؤشر النقدي وبين سلوك الأسواق، وهي فجوة تغذيها عوامل أخرى تتجاوز العملة، مثل الاحتكار، والجبايات المتعددة، وغياب الرقابة، وارتفاع تكاليف النقل، إضافة إلى سلوك تسعيري يقوم على رفع الأسعار بسرعة عند أي أزمة، والإبقاء عليها مرتفعة حتى بعد زوال أسبابها.
في ظل غياب منافسة حقيقية في استيراد وتوزيع السلع الأساسية، باتت الأسواق خاضعة لعدد محدود من كبار التجار والموردين، ما يضعف آلية العرض والطلب الطبيعية. وفي مثل هذا السياق، يتحول الاستقرار النقدي إلى فرصة لزيادة هوامش الربح بدل أن يكون أداة لتخفيف العبء عن المواطن. فالسلع التي انخفضت أسعارها مع تحسن الصرف، عادت للارتفاع تحت ذرائع غير واضحة، في مقدمتها الحديث عن تكاليف إضافية في النقل أو مخاوف من اضطرابات قادمة، حتى وإن لم تتحقق على أرض الواقع.
وهنا يبرز الغياب اللافت لدور وزارة الصناعة والتجارة، التي يفترض أن تكون الجهة المعنية بضبط الأسواق، ومراقبة التسعير، ومكافحة الاحتكار. فالوزارة، وفق متابعين، لم تنجح حتى الآن في فرض آليات واضحة وملزمة للتسعير، ولا في تفعيل أدوات الرقابة الميدانية القادرة على كبح جماح الرفع غير المبرر. ومع ضعف الدولة وتشتت السلطات، تحولت السوق إلى مساحة مفتوحة، يدفع فيها المستهلك ثمن كل خلل إداري أو سياسي.
الاضطرابات الأخيرة في شرق اليمن تطرح بدورها تحديات إضافية أمام هذا الاستقرار الهش. فالمناطق الشرقية تمثل شريانًا حيويًا للاقتصاد، سواء من حيث طرق الإمداد أو مواقع الموارد. أي توتر أمني في هذه المناطق ينعكس مباشرة على حركة التجارة، ويرفع تكاليف النقل والتأمين، ويدفع التجار إلى تحميل المستهلك كلفة “المخاطر المحتملة” قبل أن تتحول إلى واقع فعلي. وهكذا يصبح الغلاء في كثير من الأحيان استباقيًا، مبنيًا على القلق أكثر من الوقائع.
كما أن استمرار أي اضطراب في مناطق الموارد قد ينعكس على إيرادات الدولة، ما يضعف قدرتها على الحفاظ على التوازن النقدي، ويفتح الباب مجددًا أمام ضغوط على سعر الصرف، حتى وإن بدا مستقرًا في الوقت الراهن. فاستقرار العملة في المناطق المحررة لا يستند إلى اقتصاد إنتاجي قوي، بل إلى إدارة مالية شديدة الحساسية، وأي اختلال في الموارد أو الأمن قد يهدد هذا التوازن في أي لحظة.
المواطن، في نهاية المطاف، هو الخاسر الأكبر من حالة الرفع غير المبررة. فالرواتب في المناطق المحررة لم تشهد تحسنًا يوازي تغيرات الأسعار، ما يجعل أي ارتفاع في الغذاء يترجم مباشرة إلى تراجع في مستوى المعيشة، وتقليص في الاحتياجات الأساسية، وربما الاستغناء عن العلاج أو التعليم. ومع تراكم الأعباء، يتحول الغلاء من أزمة اقتصادية إلى أزمة اجتماعية، تهدد السلم المجتمعي وتغذي مشاعر الغضب وفقدان الثقة.
الحفاظ على حالة الاستقرار الاقتصادي الهشة يتطلب أكثر من تثبيت سعر الصرف. إنه يحتاج إلى حزمة إجراءات متكاملة، تبدأ بتعزيز الرقابة على الأسواق، وتفعيل دور وزارة الصناعة والتجارة بشكل حقيقي، وضبط الجبايات التي تثقل كاهل السلع في طريقها إلى المستهلك. كما يتطلب تأمين طرق الإمداد، ومنع الاحتكار، وفرض الشفافية في التسعير، بما يضمن أن ينعكس أي تحسن نقدي مباشرة على حياة الناس.
اليمن اليوم أمام اختبار صعب: إما أن يتحول استقرار الصرف إلى فرصة لإعادة التوازن للأسواق وتخفيف معاناة المواطنين، أو أن يظل رقمًا معلقًا في نشرات الصرافة، بينما تستمر الأسعار في الصعود بلا رادع. وفي بلد أنهكته الحرب والانقسامات، يبقى السؤال الجوهري: هل تستطيع الدولة حماية لقمة عيش الناس، أم يظل المواطن وحيدًا في مواجهة سوق لا يعرف سوى الارتفاع؟