آخر تحديث :السبت-13 ديسمبر 2025-08:22م
ملفات وتحقيقات

وزارة العدل ومحاكم الأموال العامة.. جهود وتحديات في معركة مكافحة الفساد (تقرير)

السبت - 13 ديسمبر 2025 - 06:42 م بتوقيت عدن
وزارة العدل ومحاكم الأموال العامة.. جهود وتحديات في معركة مكافحة الفساد (تقرير)
عدن (عدن الغد) القضائية:

الفساد ليس مجرد سلوك منحرف داخل مؤسسات الدولة، ولكنه منظومة معقدة تتشابك فيها المصالح والنفوذ، وتمتد آثارها لتقويض العدالة والتنمية والاستقرار، وفي ظل الظرف الذي تعيشه بلادنا منذ سنوات، مثّل ظرفًا استثنائيًّا، ازداد فيه خطر الفساد بشكل ملحوظ، حيث مثل هشاشة الوضع العام للمؤسسات وضعف منظومة الرقابة أبرز عوامل انتشاره.


واستشعارًا بخطورة ما أشارت إليه تقارير الشفافية الدولية من أن اليمن تحتل مراتب متأخرة في مؤشر مدركات مكافحة الفساد، برزت العديد من الجهود الوطنية.. وفي مقدمتها ما تقوم به وزارة العدل ومحاكم الأموال العامة بعدَّها خط دفاع قضائي متقدم في معركة الفساد، قائمة على إصلاح التشريعات، وتطوير منظومة العدالة، وتعزيز الشفافية والمساءلة.


أولًا: وزارة العدل.. إصلاحات مستمرة في بيئة معقّدة


في بلدٍ تتقاطع فيه الكثير من الأزمات وما أحدثته حرب مليشيات الحوثي الإرهابية ضد الدولة من تدمير كبير للبنية المؤسسية، تبدو مهمة إصلاح قطاع العدالة مهمة غاية في الصعوبة.


ومع ذلك، تحركت وزارة العدل بثبات وعزيمة لإعادة ترميم جسور الثقة بين المواطن ومؤسساته القضائية، بالاستناد إلى رؤية إصلاحية تتدرج من الأساس التشريعي إلى التفاصيل الإدارية، ومن تحديث المحاكم إلى تأهيل الكادر القضائي في جميع المحافظات.


فما بين الدمار الذي خلفته الحرب، وغياب الإمكانات، سعت الوزارة إلى حماية أركان العدالة، والبناء فوق ركام الواقع.. على مدى السنوات الماضية، وجدت نفسها أمام مهام مضاعفة تتجاوز التشغيل اليومي، إذ كان عليها أيضًا أن تبتكر أدوات جديدة للعمل، وتعيد ترتيب أولوياتها لتستوعب الاحتياجات المتنامية للعدالة في ظروف استثنائية.


وفي ظل محدودية الموارد، استطاعت الوزارة أن تجعل من كل خطوة إصلاحية — مهما بدت صغيرة — جزءًا من مشروع أكبر يستهدف إعادة بناء العلاقة وترميمها بين المواطن والقضاء، عبر منظومة أكثر فاعلية وانضباطًا.


وبالرغم من عدم استقرار العمل الإداري، نجحت الوزارة في تحويل التحدّيات إلى فرص لتطوير جودة الخدمات العدلية وتحسينها، والإسهام في استعادة حركة التقاضي، وتعزيز آليات الرقابة، وقد تجلّى ذلك من خلال عدد من النقاط المهمة، أبرزها:


أـ تحديث تشريعي يعيد الثقة


أدركت وزارة العدل أنَّ إعادة بناء منظومة العدالة لا يمكن أن تتحقق دون إعادة النظر في بعض النصوص القانونية، وانطلقت نحو إصلاح تشريعي مهم، شمل إعداد تعديلات جوهرية لقوانين الجرائم والعقوبات والإجراءات الجزائية والمرافعات والتنفيذ المدني والإثبات، وقانون الرسوم القضائية، فضلًا عن إعداد ومتابعة إصدار اللائحة التنفيذية لقانون التوثيق، وإعداد لائحة الرسوم القضائية، بما يضع حدًّا للاجتهادات المتضاربة، ويؤسس لعدالة أكثر وضوحًا واتَّساقًا.


ولتعزيز المشاركة في صياغة التشريع، دشنت الوزارة نافذة إلكترونية لاستطلاع آراء القضاة والأكاديميين والمشتغلين بالقانون حول التعديلات المقترحة؛ وهي خطوة وصفت بأنَّها رائعة حيث تهدف إلى نقل التشريع من غرف الإعداد المغلقة إلى فضاء النقاش المفتوح، وعزّزت من فلسفة “التشريع التشاركي” في بيئة قانونية لطالما وُصفت بالمركزية الصارمة.


ب ـ حوكمة الإجراءات وتبني أنظمة التحول الرقمي.. القضاء يدخل العصر الإلكتروني


في ظل تطور التكنولوجيا والتسارع نحو التحول الرقمي عالميًا، والحكومة الإلكترونية، وهو ما جعل وزارة العدل تتبنى اتخاذ إجراءات عملية لإدخال النظام الإلكتروني في سير الإجراءات القضائية رغم تدني الواقع التقني، حيث بدأت بالإجراءات اللوجستية والفنية لمشروع النظام القضائي الإلكتروني لإدارة القضايا، وهو نظام يستهدف توحيد البيانات، وتتبّع مسار القضايا، والحدُّ من التدخلات في الملفات، ومؤشر فعّال لنظام الرقابة على الإجراءات ومدى الالتزام بالقوانين وتسهيل الإجراءات، والربط بوساطة شبكة مركزية آمنة.


كما نفذت الوزارة نظام "مرسال" لإدارة المعاملات بديوان عام الوزارة إلكترونيًا، بما يقلّل الوقت الضائع في الإجراءات الورقية، ويسهم في ضبط الأرشفة وتسهيل الرقابة.


وعلى الرغم من أنَّ هذه الخطوات ما تزال في مراحلها الأولى، وتتأثر بعدد من العوامل مثل انقطاع الكهرباء وضعف الإنترنت في معظم المناطق، إلَّا أنَّها تُعَدُّ جهودًا مهمةً نحو قضاء أكثر شفافية وانضباطًا، وتفتح الباب أمام رقمنة خدمات القضاء والتوثيق في مراحل قادمة.


ج ـ دعم البنية التحتية وإعادة تأهيل المحاكم

خلّفت الحرب دمارًا في المباني القضائية، ما اضطر الوزارة إلى العمل بوتيرة إسعافية لإيجاد مقار بديلة لبعض المحاكم، وتجهيزها بالأثاث والمعدات الأساسية وأنظمة الطاقة الشمسية.. وقد منحت الوزارة أولوية خاصة لمحاكم الأموال العامة، نظرًا لحساسيتها ودورها في حماية المال العام ومكافحة الفساد، بوصفها خط الدفاع الأول عن الموارد العامة التي تتعرض للاستنزاف.


ورغم محدودية الميزانيات، نجحت الوزارة في إعادة تأثيث مبانٍ قضائية وتأهيلها في عدد من المحافظات، وتوفير أجهزة حاسوب للمحاكم، وتوفير المواد القرطاسية والأوراق القضائية، ما أسهم في تحسين بيئة العمل، ودعم الاستقرار المؤسسي داخل القطاع.


د ـ نشر الوعي القضائي.. بناء سيادة القانون

شكّلت الوزارة لجنة متخصّصة للتوعية بسيادة القانون، نفذت العديد من الحملات التوعوية والبرامج والندوات المشتركة مع بعض الجهات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني لتعزيز مبدأ سيادة القانون، والتنبيه إلى مخاطر وإشكاليات القضايا والجرائم الخطيرة الدخيلة على المجتمع، وتشجيع المواطنين على الإبلاغ عن قضايا الفساد والعبث بالمال العام.


وفي أكتوبر 2023، أطلقت وزارة العدل الصحيفة القضائية — وهي أول منصة إعلامية رسمية تصدر عن الوزارة بعد إعلان نقل مقرّات مؤسسات وأجهزة الدولة إلى العاصمة المؤقتة عدن — وتهدف إلى تعزيز الثقافة القانونية لدى المجتمع، وتوعية المواطنين بإجراءات التقاضي، ودور القضاء في مكافحة الفساد، والتعريف بالأنشطة والإجراءات التي تقوم بها الوزارة وهيئات السلطة القضائية.


ويمثل المسار الإعلامي ركيزة أساسية في بناء وعي جماعي يساند مؤسسات العدالة، ويقف ضد ثقافة التساهل مع الفساد، ويؤسس ويدعم ثقة المجتمع بالقضاء في مرحلة حساسة من تاريخ اليمن.


هـ ـ تعزيز التعاون الإقليمي والدولي.. انفتاح على العالم


على المستوى الخارجي، حرصت الوزارة على الانخراط في أنشطة المجتمع الدولي وفعالياته، بوساطة المشاركة في المؤتمرات والورش المتخصّصة بقطاع العدالة، أبرزها مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (أتلانتا 2023)، إلى جانب الاجتماعات الدورية لوزراء العدل العرب، وبرامج التعاون مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).


هذه المشاركات أسهمت في تعزيز حضور اليمن في الحوارات القانونية الدولية، وفتحت قنوات للدعم الفني والتدريب القضائي والقانوني وتطوير التشريعات وتحديثها، ومثّلت فرصة حقيقية للاستفادة من التجارب الإقليمية في إصلاح الأجهزة القضائية، وبناء منظومات فاعلة تتمتع بالنزاهة.


إنَّ رغبة وزارة العدل في الإصلاح تبدو واضحة في كل ما تقوم به، ورغم اتّساع التحديات وتعقّد الظروف، فإنَّ هذه الخطوات الإصلاحية المتراكمة تعكس إرادة مؤسسية جادّة لإعادة بناء منظومة عدالة قادرة على النهوض والاضطلاع بدورها المركزي في حماية الحقوق وسيادة القانون.


ثانيًا: المحاكم والنيابات المتخصّصة بقضايا الأموال العامة ومكافحة الفساد... درع العدالة في مواجهة الفساد


تُعَدُّ محاكم الأموال العامة ونياباتها أحد الأعمدة الرئيسة في منظومة العدالة، فهي الجهات القضائية المختصّة بالنظر في القضايا المرتبطة بالمال العام، ومحاسبة المتورطين عن العبث بالمقدرات العامة للدولة، سواء كانوا موظفين حكوميين أو أشخاصًا عاديين تربطهم معاملات مالية مع مؤسسات الدولة.

فمنذ إنشائها، حملت هذه الهيئات على عاتقها مهمة استعادة الثقة المجتمعية بالقضاء، من خلال ترسيخ مبدأ المساءلة وإعلاء مبدأ سيادة القانون، خصوصًا في ظل الأوضاع الاستثنائية التي تمرُّ بها البلاد منذ سنوات.

ورغم محدودية الإمكانات وتعدد الصعوبات، استطاعت هذه المحاكم أن تحقّق حضورًا لافتًا في المشهد القضائي، من خلال الأحكام الصادرة في عدد من القضايا البارزة التي مست المال العام، وأثبتت أن العدالة قادرة على التحرك متى توافرت الإرادة الصادقة والدعم المؤسسي لمكافحة الفساد.

على الصعيد العملي، تعمل محاكم الأموال العامة ونياباتها ضمن هيكل إداري وقضائي خاص، يشمل العاصمة المؤقتة عدن وعدد من المحافظات المحررة، وتُحال إليها ملفات تتعلق بالاختلاس، والإثراء غير المشروع، والتزوير في المستندات المالية، والعبث بالعقود الحكومية، والتهرب الضريبي، والمخالفات الجمركية، وغيرها من الجرائم الاقتصادية.


يتمتع القضاة العاملون في هذا النوع من القضايا بخصوصية الثقافة القانونية المتميّزة والإلمام الشامل في العمل القضائي، نظرًا لحساسية الملفات التي يتعاملون معها وتشابكها مع مؤسسات الدولة والمرتبطين بتلك القضايا من الأشخاص الذين يعدو مصدر إزعاج وتقاطع لمصالحهم ومن يقف ورائهم، من أصحاب المصالح.


لقد كشفت التجربة العملية أنَّ هذه المحاكم لا تؤدي دورًا عقابيًا تجاه المفسدين فحسب، بل أيضًا دورًا وقائيًا وتنظيميًا، إذ تسهم في ضبط الأداء المالي والإداري داخل المؤسسات الحكومية من خلال ردع المخالفين، وترسيخ ثقافة الرقابة الذاتية لدى الموظف العام.


فكل حكم قضائي يصدر ضد متورط في قضايا فساد يُعَدُّ رسالة واضحة بأنَّ العدالة، رغم الظروف، لا تزال حاضرة وقادرة على التصدي للعبث.. ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن هذه المحاكم تعمل في بيئة صعبة، تتسم بتداخل السلطات وضعف التنسيق المؤسسي بين الجهات الرقابية والتنفيذية والقضائية.


ففي كثير من الحالات، تواجه نيابات الأموال العامة صعوبات في الحصول على الوثائق والمستندات المالية من الجهات الحكومية، أو في تنفيذ أوامر الضبط والإحضار بحق بعض المتهمين الذين يتمتعون بنفوذ أو حماية من جهات مختلفة.


كما يواجه القضاة والعاملون في هذا المجال ضغوطًا اجتماعية وإدارية متعددة، نظرًا لطبيعة القضايا التي تمسُّ مصالح جهات متنفذة أو أطراف ذات قدرة على التأثير العام والخاص، ما يجعل العمل في هذه الهيئات محفوفًا بالمخاطر، ويتطلب قدرًا عاليًا من النزاهة والشجاعة والاستقلالية.


وتبرز هنا أهمية الدور المؤسسي لوزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى في توفير الحماية القانونية والأمنية للقضاة وأعضاء النيابة العامة المختصّين في قضايا الأموال العامة، وتزويدهم بالدعم الفني والإداري اللازم، فضلًا عن تطوير آليات التنسيق وتعزيزها بين القضاء والجهات الرقابية كالهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة.


لقد أثبتت الوقائع أن وجود محاكم متخصّصة بالأموال العامة ضرورة وطنية وليس ترفًا إداريًا، فهي تمثل خط الدفاع الأخير عن المال العام، وتُعَدُّ مؤشرًا مهمًا يثُبت مدى التزام الدولة بمبدأ الشفافية والمساءلة.


فمن خلالها يمكن قياس مدى نزاهة الإدارة العامة، ومدى التزام المسؤولين بالأنظمة القانونية، ومدى قدرة القضاء على مواجهة الفساد بوصفه ظاهرةً تهدد كيان الدولة واستقرارها الاقتصادي.


وفي ظل استمرار الحرب وتحديات العمل المؤسسي، تبقى محاكم الأموال العامة نموذجًا للقدرة على الاستمرارية والإنجاز رغم العوائق، حيث تواصل أداء مهامها في عدد من المحافظات بإصرار واضح على حماية المال العام، وترسيخ مبدأ أن لا يمكن لأحد أن يكون خارج إطار المساءلة القانونية، وهو يعزّز بناء ثقة المواطن بالدولة ومؤسساتها.


ثالثًا: تحديات مستمرة أمام العدالة


رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها وزارة العدل والهيئات القضائية في محاربة الفساد، إلَّا أنَّ الواقع لا يزال يفرض مجموعة من التحديات المعقدة والمتداخلة التي ترتبط بالجوانب التشريعية والإدارية والفنية والأمنية، وتؤثر مباشرة على مدى فاعلية الأجهزة القضائية في تحقيق العدالة ومساءلة المفسدين بالشكل المطلوب، ولعل أبرز التحديات تتمثل في:

1. تحديات تشريعية وهيكلية


الإطار القانوني لمكافحة الفساد في اليمن ما زال بحاجة إلى مراجعة شاملة وتحديث جذري. فالكثير من القوانين النافذة وُضعت في سياق سياسي واجتماعي مختلف، ولم تُعد قادرة على التعامل مع الجرائم الحديثة التي أصبحت أكثر تعقيدًا، مثل الجرائم المالية المنظمة، وغسل الأموال، والفساد العابر للحدود، والجرائم الإلكترونية.


كما أن بعض النصوص التشريعية ما زالت تمنح حصانات قانونية واسعة للفئات العليا في الدولة، وهو ما يجعل من مساءلتهم قضائيًا عملية معقدة وطويلة، هذا الخلل يُضعف مبدأ المساواة أمام القانون، ويؤدي إلى ما يُعرف بـ “العدالة الانتقائية”، حيث يخضع صغار الموظفين للمساءلة بينما يفلت كبار المتورطين من المحاسبة.


إلى جانب ذلك، تعاني منظومة مكافحة الفساد من تداخل في الاختصاصات بين الجهات الرقابية والقضائية (الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد، والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، والنيابة العامة)، وهو ما يؤدي في أحيان كثيرة إلى ازدواجية في الإجراءات أو ضياع بعض الملفات الحساسة دون حسم.

كما أنَّ عدم وجود قاعدة بيانات وطنية موحدة لقضايا الفساد والأحكام الصادرة فيها، يجعل من الصعب تتبع المتهمين أو تقييم الأداء العدلي بدقة.


2. تحديات فنية وإدارية


يُعَدُّ التأهيل المتخصّص للكادر القضائي والإداري في المحاكم والنيابات أحد أبرز المعوقات التي تواجه عمل محاكم الأموال العامة، فالكثير من القضاة وأعضاء النيابة لم يتلقوا تدريبًا متخصّصًا في الجرائم المالية والاقتصادية، التي تتطلب معرفة دقيقة بالمعاملات المصرفية والمحاسبية وآليات غسل الأموال.


إضافة إلى ذلك، تعاني معظم المحاكم من نقص التجهيزات التقنية، مثل أنظمة الأرشفة الإلكترونية، وأجهزة الحاسوب، ووسائل الاتصال الآمنة، ما يجعل العمل القضائي بطيئًا يتّسم بالرتابة الإدارية في اجراءاته.


كما أن ضعف البنية التحتية للمباني — خصوصًا في المحافظات المتضرّرة من الحرب — يؤثر على انتظام عقد الجلسات، ويجبر بعض القضاة على العمل في ظروف غير آمنة أو غير مناسبة.


من جانب آخر، ما تزال الإجراءات الإدارية داخل بعض المحاكم تعاني من البيروقراطية المفرطة وضعف مستوى الرقابة على سير المعاملات، ما يفتح الباب أمام بطء التقاضي وتأخر الفصل في القضايا، وهي عوامل تؤدي إلى ضعف ثقة المواطنين بمنظومة العدالة.


3. تحديات أمنية ومجتمعية


تُعَدُّ الحماية الأمنية للقضاة وأعضاء النيابة من القضايا الحساسة التي تؤثر مباشرة في استقلال القضاء، فمعالجة قضايا الفساد المالي غالبًا ما تمسُّ مصالح نافذين، الأمر الذي يجعل القضاة عرضة للتهديد أو الضغط أو التشهير الإعلامي.


كما أن بعض القضايا تتعلق بملفات كبيرة تشمل مسؤولين في مؤسسات حيوية، ما يجعل البيئة القضائية بحاجة إلى تأمين فعلي للكوادر العاملة في هذا الميدان.


على المستوى المجتمعي، لا يزال الوعي العام بخطورة الفساد ضعيفًا، إذ تميل بعض الشرائح إلى تبرير الممارسات غير القانونية أو التغاضي عنها بحجة الظروف المعيشية، ممَّا يخلق بيئة اجتماعية متسامحة مع الفساد، ويضعف ثقافة التبليغ والمساءلة.


4. تحديات مالية ودولية


التمويل المحدود المخصّص للقطاع القضائي يُعَدُّ عقبة كبرى أمام استكمال مشاريع الإصلاح والتأهيل، فالعديد من المبادرات التقنية والتدريبية توقفت بسبب نقص الموارد، ما جعل المحاكم تعمل بقدراتها الذاتية المحدودة.


كما تواجه اليمن صعوبة في استعادة الأموال المنهوبة في الخارج بسبب غياب اتفاقيات تعاون قضائي ثنائية فعّالة، وضعف القدرات القانونية المتخصّصة في ملاحقة الجرائم المالية العابرة للحدود.


رابعًا: مسارات مقترحة لتعزيز دور القضاء في مكافحة الفساد


لم تعد مكافحة الفساد مسؤولية جهة واحدة، بل هي مشروع وطني يتطلب تكامل أدوار السلطات الثلاث: التنفيذية، التشريعية، والقضائية، فضلًا عن دور المجتمع المدني والإعلام، وفي هذا الإطار، يمكن رسم مجموعة من المسارات المقترحة لتعزيز فعالية القضاء في مواجهة الفساد:


1. تطوير المنظومة التشريعية وتحديثها


يتطلب الواقع القانوني مراجعة شاملة لجميع القوانين ذات الصلة بالمال العام ومكافحة الفساد، وتقديم رؤية وطنية شاملة لتحديث النصوص وتطويرها؛ لتشمل الجرائم المستجدّة، وتُلغى المواد التي تمنح حصانات غير مبررة.


كما تقترح القوانين التي يستوجب تقديمها وإصدارها، وأبرزها: قانون استرداد الأموال المنهوبة، وقانون حماية المبلّغين والشهود والخبراء، اللذان سيضمنان سرية المعلومات، بصورة تكفل الحماية الشخصية من الانتقام الوظيفي أو الأذى الاجتماعي الذي قد يتعرض له المبلغ والشاهد بسبب بلاغه أو شهادته في قضايا الفساد.


2. تعزيز البنية المؤسسية للأجهزة القضائية


يستوجب العمل على إنشاء شرطة قضائية متخصّصة تتولى تنفيذ أوامر القبض والإحضار، وتأمين القضاة، ومتابعة تنفيذ الأحكام الصادرة في قضايا الأموال العامة، كما ينبغي تزويد المحاكم والنيابات المختصة بقضايا الفساد والمال العام بفرق فنية متخصّصة في المحاسبة الجنائية والتدقيق المالي، لمساعدة القضاة في تحليل الأدلة الفنية المعقدة.


3. التمكين التقني والتحول الرقمي


يمثل استكمال مشروع الأتمتة القضائية أولوية قصوى، والذي بموجبه سيتم ربط المحاكم إلكترونيًا بالنيابة العامة، وهيئة مكافحة الفساد، والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة.

كما يتطلب الأمر إنشاء نظام وطني موحد لإدارة القضايا القضائية، يسمح بتتبع مراحل التقاضي من لحظة التبليغ حتى صدور الحكم، مع توثيق إلكتروني للأدلة والمستندات، ويُعَدُّ ذلك أداة فاعلة لحوكمة الإجراءات القضائية وتعزيز النزاهة، والحدّ من فرص التلاعب، ويرفع من مستوى الشفافية.


4. بناء القدرات والتأهيل المستمر


يستلزم على وزارة العـدل والهيئات القضائية بالتعاون مع المعهد العالي للقضاء تنظيم برامج تدريب متقدمة في مجالات الجرائم الاقتصادية وغسل الأموال وتمويل الإرهاب والجرائم العابرة للحدود، مع إشراك خبراء دوليين لنقل التجارب الحديثة في التقصي المالي والتحقيق الجنائي، ويجب تطوير قدرات الكوادر الإدارية العاملة في المحاكم لرفع مستوى الكفاءة والانضباط.


5. إيجاد شراكة مجتمعية وإعلامية فاعلة


إنَّ المعركة ضد الفساد لا تُكسب في قاعات المحاكم فحسب، بل أيضًا في وعي الناس.. ولذلك، من المهم توسيع حملات التوعية المجتمعية والإعلامية حول مخاطر الفساد وطرق الإبلاغ عنه، وإدماج مفاهيم النزاهة في المناهج التعليمية، وتشجيع الصحافة الاستقصائية المسؤولة التي تسلط الضوء على قضايا المال العام من دون تضخيم أو تشويه.


6. التعاون الدولي واستعادة الأموال المنهوبة


يتطلب وضع برامج لتفعيل اتفاقيات التعاون القضائي مع الدول والمنظمات الدولية، خصوصًا تلك المتعلقة بتبادل المعلومات حول حركة الأموال المشبوهة، والعمل على إنشاء وحدة متخصّصة ضمن وزارة العدل لمتابعة ملفات استرداد الأصول والأموال المنهوبة بالتنسيق مع الأجهزة الإقليمية والدولية ذات الصلة.


7. تمكين المرأة والشباب في مكافحة الفساد


تفعيل دور المرأة في المناصب القضائية والإدارية يضيف بُعدًا نوعيًا لمكافحة الفساد، كونها غالبًا أقل تعرضًا لشبكات النفوذ المالي.. كما أنَّ إشراك الشباب في برامج التوعية والمبادرات المجتمعية يعزّز الرقابة الشعبية ويخلق جيلًا يؤمن بالشفافية والمساءلة بوصفه قيمة وطنية.


الخلاصة


الفساد في اليمن ليس قضية ثانوية، بل تحديًا وطنيًا يهدد بقاء الدولة وثقة المواطن بمؤسساته الوطنية، ومع أن الطريق ما يزال طويلًا وشاقًا، إلَّا أنَّ الجهود القضائية التي تقودها وزارة العدل ومحاكم الأموال العامة ونياباتها تؤكد أنَّ المعركة ضد الفساد مستمرة، والإرادة قائمة.


فمكافحة الفساد ليست مهمةً إداريةً فحسب، بل واجب وطني وأخلاقي وديني مقدس، وشرط أساسي لبناء دولة عادلة قادرة على حماية مواردها واستعادة هيبتها، والقضاء، حين يكون مستقلًا وقويًا، يظل الأمل الأخير في اجتثاث منظومة الفساد التي أنهكت البلاد، ودمرت مقدرات الشعب، وأعاقت عملية الاستقرار والتنمية.