حَدَّثَنا رَجُلٌ دِمَشْقِيٌّ يُدْعى أبا حامدْ، وَهُوَ مُعَلِّمٌ مُتَقاعِدْ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ لِلشِّعْرِ نَاقِدْ،
هِوايَتُهُ شُرْبُ النَّرْجِيلَةِ وَفَصْفَصَةُ القَصائِدْ،
يَجْلِسُ في مَقْهى النَّوْفَرَةْ، وَيَرْوِي القِصَصَ وَالحِكاياتِ المُعَبِّرَةْ.
قالَ، وَهُوَ يَنْفُثُ دُخانَ نَرْجِيلَتِهِ إِلَى الأَعْلَى كَأَنَّهُ دُخانُ قِطارِ الحِجازْ، وَهُوَ يُسْهِبُ
في شَرْحِ الكِنايَةِ وَالمَجازْ:
«يا قَوْمُ، صارَ الإِبْداعُ لَدَى بَعْضِ التُّيُوسْ،
كَهَواءِ البَطْنِ المَحْبُوسْ؛ يَظُنُّهُ صاحِبُهُ دُرًّا نَفيسْ،
فَإِذا انْفَلَتَ اشْمَأَزَّتْ مِنهُ النُّفوسْ.
وَيَقولُ: أَنا أَفْضَلُ مِنَ الَّذِينَ يَمْدَحُهُم (رَشِيدُ أَبُو قَيْسْ)،
وَعَلَى الأَقَلِّ أَكْتُبُ أَفْضَلَ مِنْ أَدونِيسْ،
وَلَدَيَّ أَفْكارٌ لَمْ تَخْطُرْ عَلى بالِ إِبْلِيسْ».
وَسَأَرْوِي لَكُمْ قِصَّةً تُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ بِأَدَقِّ المَقايِيسْ:
عَزَمَتْ بَلَدِيَّتُنا العَتِيدَةْ،
عَلى إِقامَةِ مُسابَقَةٍ شِعْرِيَّةٍ مَجِيدَةْ.
نُفِخَ في أَبْواقِ الإِعْلامِ، وَقِيلَ:
«يا أَهْلَ الأَقْلامِ، يا أَهْلَ القَوافِي وَالأَوْزانِ، وَأَرْبابَ الفَصاحَةِ وَالبَيانِ، هَلُمُّوا إِلَى
المَهْرَجانِ؛ فَفِيهِ خَمْرٌ بِلَا عِنَبٍ، وَجَوائِزُ مَكْتُوبَةٌ عَلى صَحائِفَ مِنْ ذَهَبٍ».
فَهاجَتْ قَرائِحُ الشُّعَراءْ، كَما تَهِيجُ البِحارُ وَالأَنْواءْ:
هذا يَصْقُلُ بَيْتَهُ حَتَّى الصَّباحِ،
وَذاكَ يُزَرْكِشُهُ بِالقُرْنُفُلِ وَالقِداحِ،
وَآخَرُ يَحْلُمُ بِالجائِزَةِ وَجَنِي الأَرْباحِ.
وَجاءَ يَوْمُ الحَفْلِ المَوْعُودِ، أَمامَ الجُمهورِ وَالحُشُودِ،
وَجَلَسَتْ لَجْنَةُ التَّحْكِيمِ عَلى المِنَصَّةْ،
وَلِكُلِّ وَجْهٍ مِنْهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْعُبُوسِ وَحِصَّةْ.
يَتَرَأَّسُها رَجُلٌ أَصْلَعُ، لا يَحْتاجُ تَسْريحَةً وَلا قَصَّةْ؛
النّاقِدُ الجَليلْ، الدُّكْتورُ فَهْمانُ الأَصِيلْ،
صاحِبُ النَّظَرِيّاتِ في النَّقْدِ وَالتَّحْلِيلْ.
وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمالِهِ اثْنانِ يُهَزّانِ الرَّأْسَ بِامْتِنانٍ،
يُقَدِّمانِ لَهُ المَشُورَةَ وَالعَوْنَ، كَما يَفْعَلُ هامانُ لِفِرْعَوْنَ.
فَصَعِدَ الشّاعِرُ الأَوَّلُ وَأَلْقَى قَصيدَةً رَنّانَةْ، قَوِيَّةً وَمَتِينَةً كَالسَّنْدِيانَةْ. فَقالَ الدُّكْتورُ
فَهْمان بِصَوْتٍ فِيهِ رَطانَةْ:
«تَقْلِيدِيٌّ مُبْتَذَلْ... قَلَّصْتَ المَعاني وَأَطْنَبْتَ الجُمَلْ».
وَجاءَ الثّانِي بِبَحْرٍ مِنَ المَعاني، يَجُرُّ أَذْيالَهُ كَزَعِيمِ حِزْبٍ لُبْنانِيٍّ. فَقالُوا:
«سَطْحِيٌّ وَمُباشِرٌ وَأَجْوَفْ... تَراكِيبُهُ مِنْ خَيْطِ العَنْكَبُوتِ أَضْعَفْ».
وَأَقْبَلَ الثّالِثُ بِصُوَرٍ تَجْرِيدِيَّةٍ وَاسْتِعاراتٍ مَكْنِيَّةٍ، فَرَدَّتِ اللَّجْنَةُ:
«فَلْسَفَةٌ فارِغَةٌ... وَفِيها مِنَ التَّكَلُّفِ أَدِلَّةٌ دامِغَةٌ».
فَنَزَلَ الشُّعَراءُ عَنِ المِنَصَّةِ مَهْزُومِينَ، كَجُنُودِ الصَّهاينَةِ في حَرْبِ تِشْرينَ.
وَإِذَا بِرَجُلٍ ثِقَتُهُ بِنَفْسِهِ قَوِيَّةْ،
وَكَيْفَ لا، فَهُوَ الْمُقَرَّبُ مِنْ رَئِيسِ الْبَلَدِيَّةْ؟
كَأَنَّهُ آتٍ مِنْ كَوْكَبِ زُحَلْ.
فَصَعِدَ الْمِنَصَّةَ بِلا خَوْفٍ وَلَا وَجَلْ.
وَوَقَفَ لِيَتَنَحْنَحَ كَعادَةِ شُعَراءِ البِلاطْ،
لَكِنْ نَحْنَحَتُهُ كانَتْ قَوِيَّةً فَخَرَجَ الصَّفِيرُ وَالضَّراطْ.
ضَرْطَةٌ قَوِيَّةٌ هَزَّتْ أَرْكانَ المِنَصَّةْ،
فَأَصابَهُ ارْتِباكٌ وَلَمْ يَعْرِفْ كَيْفَ يُلَمْلِمُ القِصَّةَ.
فَما كانَ مِنَ الدُّكْتورِ فَهْمان إِلَّا أَنْ وَقَفَ وَصاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ وَقَدْ غَمَرَهُ الاِرْتِياحْ:
«اللهُ اللهُ! هَذا هُوَ الإِبْداعُ الحَقِيقِيُّ في عَصْرِ الاِنْفِتاحْ.
حَقِيقَةً، إِنَّنا نَسْمَعُ أَجْمَلَ قَصيدَةٍ في الوُجُودْ!
لَقَدْ تَجاوَزْتَ بِصَوْتِكَ كُلَّ الأَصْواتِ مِنَ الأَحْياءِ وَالأَمْواتِ.
لَقَدْ كَسَرْتَ بِقَصيدَتِكَ الجُمُودْ،
وَتَحَرَّرْتَ مِنْ تَعْقِيداتِ الوَزْنِ وَالقُيُودْ،
وَأَتَيْتَ بِقَصيدَةٍ حَداثِيَّةٍ، سَتَكُونُ المِسْمَارَ الأَخِيرَ في نَعْشِ القَصيدَةِ العَرَبِيَّةِ
التَّقْلِيدِيَّةِ، وَانْتَقَلْتَ بِها إِلَى العالَمِيَّةِ، وَسَيَفْهَمُها كُلُّ النّاطِقِينَ بِالفُرانْكُوفُونِيَّةِ
وَالأَنْكْلُوسَكْسُونِيَّةِ».
وَقالَ الثّانِي وَهُوَ يُلَوِّحُ بِيَدَيْهِ:
«يَا لَهَا مِنْ رَمْزِيَّةٍ تُغْنِي عَنِ الْوَصْفِ! إِنَّهَا صَرْخَةُ الْمَقْهُورِ فِي وَجْهِ الْعَسْفِ!»
إِنَّها الرَّمْزِيَّةُ الصّارِخَةُ لِلشُّعُوبِ المَكْبُوتَةِ مِنَ الاِسْتِبْدادْ؛ وَانْفِجارٌ مُدَوٍّ خَفَّضَ
الضَّغْطَ وَفَتَحَ الاِنْسِدادْ!
صَوْتُ الشَّعْبِ المَضْغُوطِ، وَهُوَ يُعَبِّرُ عَنِ السُّقُوطِ!».
وَأَضافَ الثّالِثُ وَهُوَ يَلُوكُ مُصْطَلَحاتِهِ:
«تَفْكِيكِيَّةٌ خالِصَةٌ! تَجْرِيدِيَّةٌ راقِصَةٌ!
إِنَّهُ الصَّوْتُ الأَوَّلُ قَبْلَ الكَلِماتِ! القَصيدَةُ الخَامُ الخارِجَةُ مِنْ أَعْماقِ الذّاتِ!».
فَضَجَّتِ القاعَةُ بِالتَّصْفِيقِ وَالهُتافِ، وَأُعْلِنَ أَنَّ القَصيدَةَ قَدْ فازَتْ بِالمُسابَقَةِ بِلَا
خِلافٍ.
وَكُتِبَ في الجَرائِدِ وَالأَخْبارْ: «قَصيدَةُ الأَحْشاءِ تَكْتَسِحُ الأَشْعارْ!»
وَقَرَّرَتْ وِزارَةُ الثَّقافَةِ في الحالِ إِطْلاقَ جائِزَةٍ لا تَخْطُرُ عَلى بالٍ:
«جائِزَةُ الإِبْداعِ السَّنَوِيَّةِ لِلضَّرْطَةِ الشِّعْرِيَّةِ».
ثُمَّ خَتَمَ أَبُو حامِدٍ الدِّمَشْقِيُّ كَلامَهْ، وَأَطْفَأَ نِيرانَ اهْتِمامِهْ، قائِلًا:
«فَيا أَصْحابَ العُقُولْ، لا تَسْتَغْرِبُوا ما أَقولْ؛
فَحينَ يَحْكُمُ الفَهْلَوِيُّونَ وَالمُدَّعُونْ، يُصْبِحُ الهُراءُ فَنًّا، وَيَرْتَقِي المَأْفُونْ.
فَلا تَعْجَبْ إِنْ فازَ مَنْ ضَرَطَ، وَخَسِرَ مَنْ وَضَعَ عَلى الحُرُوفِ النُّقَطَ.
فَنَحْنُ في عَصْرٍ شِعارُهُ البَساطَةْ؛ فَمَنْ أَرادَ الشُّهْرَةَ وَالإِحاطَةْ،
لا داعِيَ لِحِفْظِ كَلامِ القَوامِيسِ، وَلا يَتْعَبُ نَفْسَهُ كَبَقِيَّةِ الشُّعَراءِ المَتاعِيسِ.
عَلَيْهِ فَقَطْ أَنْ يَأْكُلَ صَحْنًا مِنَ الفُولْ، لِيَكْتُبَ الشِّعْرَ حَسَبَ القَواعِدِ وَالأُصُولْ، وَلا
بَأْسَ بِالفَلافِلِ وَالبَصَلْ، وَيُطْلِقَ العِنانَ لِاسْتِهِ، الَّذِي عَلَيْهِ يُعْقَدُ الأَمَلْ!».