آخر تحديث :الإثنين-22 سبتمبر 2025-11:27ص
أخبار وتقارير

الاحتجاجات في تعز: هل تتجاوز مطلب تسليم قتلة افتِهان المشهري إلى اجتثاث الجماعات المسلحة؟

الإثنين - 22 سبتمبر 2025 - 09:20 ص بتوقيت عدن
الاحتجاجات في تعز: هل تتجاوز مطلب تسليم قتلة افتِهان المشهري إلى اجتثاث الجماعات المسلحة؟
عدن/ القسم السياسي – صحيفة عدن الغد

حادثة اغتيال الأستاذة افتِهان المشهري، مديرة صندوق النظافة والتحسين في محافظة تعز، لم تكن مجرد جريمة عابرة تُضاف إلى سجل طويل من الاغتيالات التي شهدتها المدينة خلال سنوات الحرب، بل شكلت لحظة فارقة فجرت غضبًا شعبيًا مكتومًا منذ أعوام. فالمشهري لم تكن مجرد موظفة عامة، بل شخصية ارتبط اسمها بجهود إصلاحية داخل مؤسسة مترهلة كانت تعاني من الفساد والشلل. نجاحها النسبي في إعادة تفعيل صندوق النظافة جعلها رمزًا لنموذج الدولة الممكنة حتى في ظل ظروف الحرب. ولذلك بدا اغتيالها صدمة مزدوجة: استهداف امرأة نزيهة في موقع قيادي، ورسالة ضمنية من القوى المتنفذة بأن أي محاولة لإعادة هيبة الدولة ستواجه بالرصاص.


ما ميّز رد الفعل الشعبي هو أن التظاهرات لم تقف عند حدود المطالبة بالقبض على القتلة، بل تحولت إلى منبر للتعبير عن رفض واسع لحالة الفوضى الأمنية التي تخنق تعز منذ العام 2015. الآلاف خرجوا إلى الشوارع، ليس فقط من أحياء المدينة، بل أيضًا من القرى والأرياف المحيطة، في مشهد غير مسبوق منذ سنوات. هذا التدفّق الريفي إلى قلب تعز منح الاحتجاجات بُعدًا جديدًا، وأظهر أن القضية لم تعد قضية مدينة محاصرة فحسب، بل قضية محافظة بأكملها تبحث عن الخلاص من سطوة السلاح.


منذ العام 2015، عاشت تعز تحت معادلة مركبة: حصار الحوثيين من الخارج وهيمنة الفصائل المسلحة من الداخل. الدولة الرسمية، المتمثلة في السلطة المحلية والمكاتب التنفيذية، وجدت نفسها مجرد واجهة عاجزة عن فرض النظام أو توفير الخدمات الأساسية. مواردها محدودة، والدعم القادم من العاصمة المؤقتة عدن متقطع، فيما تتحكم الفصائل بالإيرادات عبر الجبايات والمعابر. في ظل هذا الفراغ، برزت فصائل المقاومة الشعبية التي خاضت المعارك الأولى ضد الحوثيين، لكنها سرعان ما تحولت إلى تشكيلات متشرذمة ترتبط بولاءات حزبية وقبلية.


هذا الانقسام جعل المواطن البسيط ضحية لتعدد سلطات الأمر الواقع. ففي كل حي تقريبًا توجد جماعة مسلحة تفرض أسلوبها الخاص، وتجمع الأموال عبر نقاط التفتيش، وتتعامل مع الناس بمنطق الغلبة لا القانون. كثير من الانتهاكات بقيت بلا محاسبة، وكثير من الجرائم أُغلقت ملفاتها بفعل نفوذ القوى المسيطرة. ولهذا حين اغتيلت افتِهان، شعر الناس أن الجريمة تعبير صارخ عن هذا الواقع، وأن استمرار السكوت يعني التسليم بسلطة الفوضى إلى ما لا نهاية.


من الناحية السياسية، لا يمكن فصل المشهد عن حضور حزب الإصلاح الذي يُعد اللاعب الأبرز في تعز. فمنذ ثورة 2011 عزز الحزب نفوذه عبر النقابات والجامعات والجمعيات، ومع اندلاع الحرب وجد نفسه في موقع القيادة للمقاومة. هذا الدور العسكري منحه نفوذًا واسعًا داخل المحور العسكري والأجهزة التنفيذية. ومع مرور الوقت، صار الإصلاح يمسك بمفاصل القرار داخل المدينة، سواء عبر التعيينات أو عبر سيطرته على جزء كبير من التشكيلات المسلحة. ولهذا فإن أي محاولة لاجتثاث الجماعات المسلحة ستصطدم مباشرة بنفوذ الإصلاح، وهو ما يفتح الباب أمام مواجهة سياسية وربما عسكرية داخلية.


لكن الاحتجاجات الأخيرة تكشف عن تحوّل مهم في المزاج الشعبي. لسنوات طويلة، كان الناس يخشون انتقاد الفصائل المسلحة بشكل علني، إما خوفًا من الملاحقة أو يأسًا من جدوى الكلام. غير أن جريمة اغتيال المشهري كسرت حاجز الخوف. الناس باتوا يرفعون شعارات تطالب بإعادة السلاح إلى مؤسسات الدولة، ويرون أن استمرار الوضع الراهن لم يعد مقبولًا. هذا التحول يعكس نضجًا في وعي الشارع، وإدراكًا بأن مشكلة تعز لم تعد مقتصرة على الحصار الحوثي، بل تشمل أيضًا هيمنة القوى المحلية التي استغلت الحرب لتكريس نفوذها.


تاريخ تعز يمنح هذا الحراك عمقًا إضافيًا. فالمدينة كانت دائمًا في مقدمة التحولات الوطنية. منها انطلقت شرارة ثورة 1962 التي أطاحت بالإمامة، ومنها خرجت طلائع النخب الفكرية التي قادت مشروع الدولة الوطنية. وفي 2011 كانت تعز قلب الثورة الشعبية ضد نظام صالح. هذا الإرث يجعل من الاحتجاجات الحالية امتدادًا لتاريخ طويل من المقاومة المدنية. غير أن التحدي هذه المرة مختلف؛ فالخصم ليس سلطة مركزية يمكن الإطاحة بها، بل شبكة معقدة من الفصائل المسلحة التي تستند إلى أحزاب وولاءات مناطقية ودعم إقليمي غير مباشر.


المعادلة تزداد تعقيدًا بوجود الحوثيين على أطراف المدينة. فالحصار المفروض منذ سنوات يمنح الفصائل المسلحة مبررًا لبقائها. فهي تقدم نفسها كحاجز يمنع سقوط تعز، وتستخدم هذا الدور لتعزيز شرعيتها وابتزاز السلطة المحلية. وبالتالي فإن أي فراغ أمني قد يفتح الباب أمام الحوثيين للتقدم، وهو ما يجعل مطلب اجتثاث الجماعات المسلحة محفوفًا بالمخاطر إذا لم يترافق مع خطة لإعادة بناء الأجهزة الأمنية بشكل منظم.


اقتصاديًا واجتماعيًا، دفعت تعز ثمنًا باهظًا للحرب والفوضى. أسعار السلع مرتفعة بفعل تعدد الحواجز والجبايات، وقطاع الخدمات في حالة انهيار دائم، فيما تفشت البطالة والفقر. المواطن البسيط بات يرى أن بقاء الجماعات المسلحة أحد أسباب هذه المعاناة، لأنها تستنزف الموارد وتمنع الدولة من بسط سيطرتها. ولهذا فإن الغضب الشعبي لا يعكس فقط رفضًا للجريمة، بل أيضًا رفضًا للوضع المعيشي الذي تدهور إلى مستويات غير مسبوقة.


الاحتجاجات إذن ليست حدثًا عابرًا، بل لحظة مفصلية قد تعيد صياغة معادلة السلطة في تعز. السؤال هو ما إذا كان الشارع قادرًا على الاستمرار بالزخم نفسه، وما إذا كانت القوى المدنية قادرة على تحويل الغضب إلى مشروع منظم يفرض نفسه على القوى السياسية والعسكرية. ففي غياب قيادة واضحة للحراك، هناك خطر أن تستغل الأحزاب هذا الغضب لصالحها، أو أن يتلاشى تدريجيًا تحت وطأة التعب والضغوط. لكن حتى لو حدث ذلك، فإن بذرة التغيير قد زُرعت بالفعل في وعي الناس.


في المحصلة، تقف تعز اليوم أمام منعطف تاريخي. إذا بقيت الاحتجاجات محصورة في مطلب تسليم القتلة، فقد يحصل الشارع على استجابة محدودة تُهدئ الغضب مؤقتًا. أما إذا توسعت لتشمل مطلب اجتثاث الجماعات المسلحة وإعادة بناء مؤسسات الدولة، فإنها قد تفتح الطريق نحو تحول جذري في مسار المدينة. النجاح في ذلك ليس مضمونًا، لكنه ليس مستحيلًا أيضًا. فهو مرهون بقدرة الشارع على الصمود، وبشجاعة السلطة على مواجهة جذور الأزمة، وبوجود دعم إقليمي ودولي يحول دون انهيار أمني شامل.


ما هو مؤكد أن دماء افتِهان المشهري لن تمر مرور الكرام. فقد أعادت للناس الأمل بأن التضحية يمكن أن تثمر، وأن الغضب يمكن أن يتحول إلى قوة تغيير. وإذا كان التاريخ يعلمنا شيئًا عن تعز، فهو أن هذه المدينة قادرة على تحويل المأساة إلى فرصة، والغضب إلى مشروع سياسي. السؤال المطروح الآن: هل تكون هذه اللحظة بداية مسار جديد ينهي سطوة السلاح، أم تُطوى كسابقاتها تحت ضغط المصالح والتوازنات؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة، لكن المؤكد أن ما بعد افتِهان لن يكون كما قبلها.