تحظى الحالات المرضية بالأولوية في جمع التبرعات لدى اليمنيين، باعتبار أنّ الجميع معرضون للمرض، وأن التكاليف العلاجية في اليمن تفوق قدرة غالبية الأسر.
ساهمت الظروف الإنسانية التي أنتجتها الحرب المندلعة في اليمن منذ أكثر من عشر سنوات في تعزيز قيم التكافل المجتمعي، خاصة في مواجهة الحالات المرضية التي تحتاج إلى تكاليف علاج باهظة. أصيب اليمني فايز (44 سنة) بسرطان القولون، ما استدعى سفره إلى الخارج حسب توصية الأطباء الذين قاموا بتشخيص حالته، لكنّ الرجل الذي ينحدر من مديرية القبيطة بمحافظة لحج، وجد نفسه عاجزاً عن توفير كلفة رحلته العلاجية التي تحتاج إلى أكثر من 8 آلاف دولار في الحد الأدنى. وفي ظلّ غياب الدعم الحكومي لعلاج المرضى في الخارج، وغياب الجمعيات الخيرية التي تتكفل بعلاج الحالات المماثلة، تصدى أبناء قريته لجمع المال عبر فتح باب التبرعات.
يقول أحد رفاق المريض، حبيب أحمد لـ"العربي الجديد": "حين قرّر الأطباء أنه ينبغي تسفيره إلى مصر للعلاج، أصبح يعيش حالة قلق متواصلة على وضعه الصحي، خاصة أن وضعه المادي لا يسمح بتوفير المبلغ المطلوب، فأسرته فقيرة، ولا يوجد في عائلته من يستطيع التكفل بعلاجه، لذا بادرنا إلى فتح باب التبرعات عبر مجموعات تطبيقات التواصل الاجتماعي الخاصة بأبناء قريتنا والقرى المجاورة". يضيف: "قمنا بنشر رسالة تفصيلية عن حالته الصحية، وأرفقناها بصور التقارير الطبية التي أوصت بضرورة تسفيره إلى الخارج لتلقي العلاج، وبدأنا تسجيل المتبرّعين، إذ كان الشخص يسجل اسمه والمبلغ الذي سيتبرع به، كما أرفقنا رقم حساب بنكي خاص من أجل توريد المبالغ إليه من المتبرع نفسه، والتزمنا بمبدأ الشفافية من أجل تعزيز المصداقية، وتفاعل معنا كثيرون من أبناء المنطقة الميسورين، وكذا بعض المغتربين، وجرى تجميع ما يقارب 7 آلاف دولار، وتسفير المريض للعلاج، وهذا يعطينا أمل أنه رغم الظروف الصعبة للناس إلّا أن الخير ما زال موجوداً".
ولا يقتصر جمع التبرعات في اليمن على الحالات المرضية التي تستدعي السفر إلى الخارج، بل تشمل جميع الحالات المرضية التي تكلف مبالغ مالية كبيرة، خاصة تلك التي تستدعي إجراء عمليات جراحية تفوق القدرة المالية للمريض. كذلك، فإنّ خلال عملية جمع التبرعات لا يجري فرض مبلغ محدد على المتبرع، بل يترك الأمر له لتحديد المبلغ الذي يساهم به وفقاً لقدرته المالية.
اليمني علي (58 سنة) فلاح يعيش في إحدى قرى ريف تعز، ولا يملك سوى أرض صغيرة يعيل من خلال زراعتها أسرته، وهو مصاب منذ سنوات بالسكري، وأدت المضاعفات إلى انسداد في الشرايين، ليجري إسعافه إلى مركز القلب والأوعية الدموية في المستشفى الجمهوري بمدينة تعز، حيث قرّر الأطباء إجراء عملية قلب مفتوح له. يقول لـ"العربي الجديد": "نقلت إلى المستشفى بعدما أصبت بجلطة، وكنت مهدّداً بالموت إذا لم يجرِ إجراء عملية قلب مفتوح إسعافية، وجرى تحديد سعر العملية بـ4500 دولار، ولأنّني لا أملك المبلغ، قام أحد أقاربي بتقديم رهونات مالية للمستشفى من أجل إجراء العملية". يتابع: "أجريت العملية، وتماثلت للشفاء، لكن كان عليّ توفير المبلغ، فقام الشباب من أبناء قريتنا بفتح باب التبرعات، وجرى التواصل مع الموظفين والمغتربين، وكل شخص تبرع بما يستطيع حسب قدرته، وخلال شهرين جُمع المبلغ، وجرى تسليمه للمستشفى. لولا تعاون أبناء قريتي ما استطعت إجراء العملية، وهذا يشعرني بالامتنان الكبير لهم لما قدموه رغم الأوضاع الصعبة التي يمر بها الجميع".
ونجح كثيرون في اليمن في توظيف وسائل التواصل الاجتماعي لتسهيل جمع التبرعات، وعادة يستخدمون مجموعات تطبيق "واتساب" الخاصة بأبناء القرية أو المنطقة، والتي يجري من خلالها مناقشة المواضيع التي تهمّ الأعضاء، وفي مقدمتها الحالات الإنسانية التي تستدعي المساعدة. وتمتاز تلك المجموعات بالخصوصية التي تحفظ كرامة المستفيد من جمع التبرعات، كما يمكن من خلالها طرح موضوعه في نطاق ضيّق يضم أبناء القرية أو المنطقة، الذين تجمعهم به غالباً علاقة قرابة أو صداقة.
إلى جانب الحالات المرضية، ثمّة حالات إنسانية أخرى في اليمن تُجمَع التبرعات لها، مثل دفع الديات في حالة القتل الخطأ، أو من أجل بناء منازل للعائلات الأشد فقراً أو التي لا عائل لها، على سبيل العائلات المؤلّفة من أرامل وأطفال. كذلك تساهم التبرعات في تزويج الشبّان الأشد فقراً أو تدبير مصدر رزق دائم لهم.
وتقول الباحثة الاجتماعية فيروز السلامي، لـ"العربي الجديد"، إن "الحرب أثرت سلباً على أوضاع جميع اليمنيين، وهذا ما يجعلهم أكثر اهتماماً بمعاناة الآخرين، ويعمّق الشعور التكافلي لديهم، ويدفعهم إلى مساعدة الآخرين في حدود قدرتهم، ولا شكّ أن المرض أحد أهم الابتلاءات التي قد تصيب الإنسان، وفي ظل الوضع المعيشي الصعب، صار من يصاب بمرض خطير عاجز عن التكفل بتكاليف العلاج، لذا يجد في أهله وأبناء منطقته الملجأ الوحيد لمساعدته، ما يجعلنا نشهد كثرة المبادرات المجتمعية لمساعدة المرضى، التي تكاد تكون موجودة في كل المناطق اليمنية بلا استثناء".
وتشير السلامي إلى أن "الحرب بدلت الكثير من القيم الاجتماعية، لكنّها في المقابل عزّزت من قيمة التكافل الاجتماعي الإنسانية، التي تكشف عن المعدن الأصيل للمجتمع اليمني المعروف بالنخوة والمروءة والكرم ومساعدة المحتاج، وربما هذا ما ساهم في تماسك المجتمع طوال سنوات الحرب العشرة، كما أن المغتربين اليمنيين يعدون عنصراً أساسياً في حملات التبرع للمرضى، على اعتبار أنهم الفئة الأفضل حالاً بين كل فئات الشعب اليمني التي تضرّرت مباشرة من تبعات الحرب".