لم يكن سقوط العاصمة صنعاء يوم 21 سبتمبر/أيلول 2014 مجرّد نتيجة طبيعية لهجوم عسكري مباغت من جماعة الحوثي، كما صُوّر لاحقًا في الرواية الدعائية للجماعة، بل كان في جوهره ـ وفق شهادة صادمة للعميد الدكتور عمر عبدالكريم، مدير أمن العاصمة آنذاك ـ ثمرة قرار سياسي وأمني داخلي بالتسليم والتواطؤ، تُرجم في برقية سرية وجّهت إلى الأجهزة الأمنية تقضي بالتعامل مع الميليشيا بـ"رفق"، أي الاستسلام دون قتال.
هذه الشهادة التي أدلى بها عبدالكريم عبر بودكاست "يمانيون" مع الإعلامي بشير الحارثي، تعيد فتح أحد أخطر الملفات في التاريخ السياسي اليمني الحديث، وتكشف عن الدور الذي لعبته قيادات نافذة في النظام السابق وأجنحة داخل أجهزة الدولة في تمهيد الطريق للحوثيين نحو العاصمة، عبر شلّ المؤسسات الأمنية والعسكرية وتحويلها إلى هياكل خاوية عاجزة عن المواجهة.
برقية الاستسلام.. "القشة التي قصمت ظهر الدولة"
بحسب عبدالكريم، جاء التوجيه من وزارة الداخلية بشكل صريح إلى عمليات الأمن، بضرورة "التعامل برفق" مع الحوثيين، وهو ما فُهم فورًا كقرار رسمي بالتسليم. يقول: "كانوا قد دخلوا الوزارات على قليل قليل.. حتى وصلوا مجلس الوزراء"، موضحًا أن هذا التوجيه نزع عن الضباط والجنود أي غطاء سياسي أو شرعي للمقاومة، وأفقدهم معنوياتهم بالكامل.
لقد حوّلت تلك البرقية الأجهزة الأمنية إلى متفرج عاجز، وأعطت الحوثيين ضوءًا أخضر للتمدد التدريجي داخل مفاصل الدولة، دون أن يواجهوا أي مقاومة حقيقية. وبذلك تحولت مؤسسات الحكومة، وزارة تلو الأخرى، إلى مكاتب تحت سيطرة الميليشيا، وسط صمت رسمي يرقى إلى حد التواطؤ.
تفكك داخلي ممنهج و"عمى أمني" كامل
لكن البرقية لم تكن وحدها السبب. فقد كشف عبدالكريم عن حجم التفكك الذي أصاب الأجهزة الأمنية منذ سنوات، حيث غاب التنسيق تمامًا بين الأمن السياسي والقومي وإدارة الأمن. هذا "العمى الأمني" جعل العاصمة مكشوفة أمام تحشيدات الحوثيين، الذين استغلوا احتجاجات رفع الدعم عن المشتقات النفطية كغطاء سياسي للتحرك نحو صنعاء.
ويضيف أن وزارة الداخلية وإدارة الأمن استُنزفتا عمدًا في قضايا جانبية ومظاهرات مفتعلة يقودها الموالون للنظام السابق، فضلًا عن موجة الاغتيالات العشوائية التي استهدفت الضباط والأفراد، ما جعل الأمن منهكًا ومربكًا وغير قادر على التركيز على الخطر الحقيقي.
غياب القيادة وهروب المسؤولين
في تلك اللحظة الحرجة، يروي العميد عبدالكريم أن موقف القيادة السياسية والأمنية كان "موقفًا سلبيًا". وزير الداخلية اختفى تمامًا بعد سقوط عمران، ولم يعد هناك أي غطاء قيادي حقيقي للأجهزة الأمنية في العاصمة، باستثناء تعليمات عبثية بـ"التناوب" الليلي. هذا الغياب فتح الباب للفوضى الكاملة، وترك الضباط في مواجهة مصيرهم بلا قيادة ولا خطط.
مشهد الإذلال.. "انزل بوس ركبته"
واحدة من أكثر اللحظات إيلامًا التي رواها عبدالكريم تمثلت في الإذلال العلني الذي تعرضت له الأجهزة الأمنية. عندما دخل الحوثيون إلى إدارة الأمن، أخبره ضباطه أن القيادي الحوثي أبو علي الحاكم في الأسفل، وقالوا له ساخرين: "انزل بوس ركبته". يصف العميد تلك اللحظة بأنها كانت القشة الأخيرة، لكنه رفض النزول وفضّل الخروج "مرفوع الرأس" على أن ينحني لميليشيا جاءت بقوة الفوضى والتواطؤ.
هذا الموقف أصبح رمزًا لجزء من الضباط الذين تمسكوا بكرامتهم العسكرية، رغم أنهم كانوا قلة وسط طابور طويل من المسؤولين الذين رحّبوا بالحوثيين كسلطة أمر واقع، بل وسارعوا إلى تقديم الولاء لهم.
تسهيلات من داخل النظام السابق
الأكثر خطورة في شهادة عبدالكريم كان تأكيده أن سقوط صنعاء لم يكن عسكريًا بحتًا، بل نتيجة تفاهمات وتسهيلات من حلفاء الحوثيين في النظام السابق. يروي كيف غادر رشاد العليمي ـ رئيس مجلس القيادة الرئاسي حاليًا ـ صنعاء بسهولة عبر التشريفات الرسمية، بينما اضطر هو للخروج بصعوبة وعبر وساطة. هذا التناقض كشف حجم التواطؤ داخل أروقة الدولة آنذاك.
كما يؤكد أن القيادات الأمنية والحزبية الكبيرة سارعت بعد ذلك إلى "طوابير" الولاء لعبد الملك الحوثي، ما يعني أن السيطرة الحوثية لم تكن نتيجة "غلبة"، بل نتاج اتفاق ضمني وتلاقي مصالح بين جماعة مسلحة وقيادات سياسية فقدت مشروعيتها.
سقوط صنعاء.. خيانة أم هزيمة؟
تضع شهادة العميد عبدالكريم علامات استفهام كبرى: هل كان سقوط صنعاء خيانة متعمدة من الداخل أكثر منه هزيمة أمام الخارج؟ وهل كانت البرقية مجرد تعليمات عابرة، أم قرارًا سياسيًا مدروسًا لفتح أبواب الدولة للحوثيين؟
ما لا يرقى إليه الشك هو أن ما جرى في 21 سبتمبر 2014 كان لحظة فاصلة في تاريخ اليمن، لحظة تواطأت فيها الأطراف السياسية والأمنية لتمهيد الطريق لأسوأ كارثة وطنية في تاريخ البلاد. كانت النتيجة انهيار الدولة ومؤسساتها، وتحول صنعاء إلى عاصمة محتلة، ودخول اليمن في عقد من الحرب والدمار الذي لم ينته بعد.
شهادة عبدالكريم لا تُعيد فقط قراءة الماضي، بل تطرح تساؤلات حارقة عن حاضر اليمن ومستقبله: هل ما زالت مؤسسات الدولة قادرة على استعادة استقلالها؟ أم أن تكرار "برقية استسلام جديدة" سيظل شبحًا يلاحق أي محاولة للنهوض من جديد؟
هذه الشهادة، بكل ما فيها من تفاصيل وإشارات، ليست مجرد رواية شخصية، بل وثيقة إدانة لمرحلة بكاملها، مرحلة أُفرغت فيها الدولة عمدًا من قوتها وهيبتها، وسُلّمت عاصمتها بقرار سياسي إلى جماعة مسلحة ما زالت حتى اليوم تتحكم بمصير اليمنيين.برقية العار التي أسقطت صنعاء.. شهادة عميد أمني تكشف كيف فُتحت أبواب العاصمة للحوثيين بأوامر رسمية وبتواطؤ داخلي