آخر تحديث :السبت-05 يوليو 2025-02:02م
أخبار وتقارير

مدن من رماد.. إلى أين يذهب اليمنيون؟

السبت - 05 يوليو 2025 - 09:13 ص بتوقيت عدن
مدن من رماد.. إلى أين يذهب اليمنيون؟
((عدن الغد))خاص

في بلدٍ مزقته الحرب منذ أكثر من عقد، لا يبدو أن هناك مدينة قادرة على احتضان مواطن يمني بطمأنينة. سؤال بسيط يتكرر على ألسنة الناس في الأحياء، وعلى الأرصفة، وفي طوابير البنزين والمياه والمستشفيات: إلى أين نذهب؟ لقد تحولت مدن اليمن إلى جزر منفصلة، لا رابط بينها سوى الخيبة. كل مدينة تُدار بمنطق مختلف، وكل سلطة تحكم وفق شريعتها الخاصة، لكنّ القاسم المشترك بينها جميعًا هو أن الناس لم يعودوا أولويّة لأحد.


صنعاء.. الناس بلا رواتب وتحت القيد الكامل

في صنعاء، تختنق الحياة بالصمت القسري، وبخوف لا يُروى. الناس بلا رواتب منذ سنوات، رغم أن مؤسسات الدولة لا تزال تُدار من هناك. الحكومة الانقلابية تصرف نصف راتب كل عدة أشهر، وهو بالكاد يكفي ليومين. الرأي السياسي محظور بالكامل. الحديث في الشارع، في صالة الأعراس، أو حتى على مواقع التواصل قد يُفضي بك إلى السجن، أو على الأقل إلى "دورة ثقافية" إجبارية. المواطن إبراهيم القيسي، موظف سابق في وزارة المالية، يقول: "نعيش على الحوالات من الخارج. الراتب لم يعد حلمًا، بل ذكرى. أسعار السلع ترتفع كل أسبوع، وسعر الدولار الذي يتحدثون عنه في التلفزيون لا وجود له في السوق. حتى أن الأعراس لم تعد مناسبة للفرح، لأن الحوثيين يفرضون شروطًا حتى على الأغاني واللباس." الاقتصاد منهار، السوق خاضعة للسوق السوداء، وسعر الصرف وهمي يُعلن في الإعلام ولا يُطبق في الواقع. حتى الاحتفالات الخاصة باتت تحت رقابة اللجان، والمواطن يعيش حياة متحفزة، لا يشعر بالأمان لا في بيته ولا في عمله.


تعز.. مدينة المنقسمين والجائعين

أما تعز، التي كانت رمزًا للوعي والثقافة، فقد أصبحت اليوم مدينة ممزقة بين أطراف متعددة. لا سلطة محلية فاعلة، ولا مرجعية مدنية تقود. الانقسام لا يقتصر على الخريطة العسكرية، بل يمتد إلى كل تفاصيل الحياة. الرواتب غائبة عن آلاف الموظفين. المدارس بلا طباعة كتب، والمستشفيات تعمل بما يشبه المعجزات. شوارع المدينة مقطعة، نقاط التفتيش لا نهاية لها، وكل فصيل يفرض سيطرته على حي أو مربع، ويتعامل مع السكان بناء على انتمائهم أو موقفهم. تقول أم عبدالرقيب، معلمة منذ 20 عامًا: "منذ أربع سنوات لم أقبض راتبًا منتظمًا. أصبحنا نعيش على الديون. التعليم ينهار، لا أحد يهتم. الكتائب تقاتل في النهار، وتتقاسم الجبايات في الليل. لم نعد نعرف من المسؤول عن المدينة." تعز، اليوم، تعيش حالة انفجار مؤجل. مدينة بلا حاكم، بلا خطة، بلا أمل. الناس فيها يعيشون على حافة الخوف والجوع، والحرب لم تنتهِ… لكنها لم تعد تُغطى بالنار، بل بالخذلان.


عدن.. بين الحلم والتحطم

أما عدن، التي راهن الجميع عليها لتكون منطلق بناء الدولة الجديدة، فقد غرقت في بحر من الفوضى الخدمية والسياسية. الخدمات منهارة تمامًا، والكهرباء أصبحت ترفًا لا أحد يملكه. في أحياء كاملة، لا تصل الكهرباء إلا ساعتين في اليوم، يقابلها 20 ساعة من الظلام والحرارة. الرواتب ضعيفة، وغالبيتها لا تُصرف في وقتها. غلاء المعيشة ينهش السكان، والأسواق تغلي بالدولار، بينما العملة المحلية تُحتضر. الدولة؟ غائبة تمامًا. لا مؤسسات حقيقية، ولا مرجعية تنفيذية تُحاسب أو تُراقب. تتعدد الولاءات، وتتنازع القوى الأمنية، فيما المواطن يُطلب منه أن يصبر، بلا أي مقابل. يقول الشاب ناصر محمد، من دار سعد: "لا ماء، لا كهرباء، لا راتب. كيف نعيش؟ لا أحد يجيب. من نحاسبه؟ الدولة غائبة، والقيادات كل يوم في سفر أو مؤتمر. عدن لم تعد عدن."


حضرموت.. من الأمل إلى ساحة الصراع

أما حضرموت، التي كانت لسنوات خارج دوائر الحرب المباشرة، فقد دخلت مؤخرًا طور الصراع الخفي والمعلن. الخلافات بين السلطة المحلية وحلف قبائل حضرموت بدأت تتسع، وتحولت إلى مشهد انقسام وتوتر، بلغ ذروته مع تشكيل قوات عسكرية تابعة للحلف، في تحدٍّ غير مباشر لسلطة الدولة. زيارة الشيخ عمرو بن حبريش للواء الأول في وادي حضرموت كانت رسالة واضحة: حضرموت تريد تغييرًا في إدارة محافظتها، لكن الطرف الآخر يتمسك بمركزيته. هذا التوتر جعل المدينة التي كانت تُوصف بـ"الأكثر هدوءًا" ميدانًا لصراع النفوذ والولاءات، وسط مخاوف من أن تتحول حضرموت إلى ساحة مواجهة جديدة إن لم يُحتكم إلى العقل.


مأرب.. من قلعة الصمود إلى بوابة الضغط والانفجار

مأرب، التي كانت توصف بأنها "الخط الأخير للجمهورية"، تحولت اليوم إلى مدينة مرهقة بالضغوط. تحمّلت ما يفوق طاقتها من استيعاب بشري وخدماتي. لكن مع تصاعد الهجمات الحوثية، والتوترات الأمنية الداخلية، بدأت المدينة تفقد توازنها. يقول ياسر محمد، نازح من عمران: "مأرب كانت الأمان، واليوم الأسعار جنونية، السكن معدوم، وفرص العمل محصورة على فئة محددة. حتى التوترات بين الفصائل بدأت تنعكس علينا نحن البسطاء." المدينة التي كانت صامدة، باتت مهددة بالانفجار من الداخل، إذا استمرت الفجوة بين القيادات والمواطنين، وإذا لم تتم مراجعة جدية لأولوياتها وخدماتها.


الحديدة.. صمت البحر وموت الداخل

أما الحديدة، المدينة الساحلية ذات الواجهة البحرية، فتعيش عزلة اقتصادية وإنسانية. رغم توقف القتال، إلا أن الفقر والتجويع والسيطرة المحكمة تجعل من المدينة سجنًا مفتوحًا. يقول البحّار فؤاد مهدي: "كان الميناء يطعم آلاف الأسر. اليوم بالكاد نحصل على وقود. نحن محاصرون اقتصاديًا، ومنسيّون إنسانيًا." لا مشاريع، لا تعليم، لا فرص عمل، ولا حرية رأي. فقط صمت، وماء مالح، وناس يصبرون على الجوع في ظل غياب شبه كامل لأي بصيص أمل حقيقي.


الشرعية.. الغياب الكامل

وفي كل مدينة من مدن اليمن، يتكرر السؤال ذاته: أين الحكومة؟ الشرعية التي لطالما نادى الناس بعودتها، باتت أشبه بكيان رمزي لا يُلمس على الأرض. وزراؤها يقيمون خارج البلاد، وقراراتها تصدر عبر وسائل التواصل، بينما الأزمات تتوالى بلا أي تدخل فعلي. مواطنو المحافظات المحررة يشعرون بأن لا فرق بينهم وبين من يعيش تحت سلطة الحوثيين، سوى أن الطرف الأول يُفترض أنه يمثل "الدولة". الرئيس، الوزراء، وحتى بعض أعضاء مجلس القيادة، لا يظهرون إلا في الفعاليات الدولية أو عبر صور بروتوكولية، فيما تتكدس المعاناة داخل المخيمات، وبين طوابير الخبز والمشتقات. الشرعية تبدو غائبة ذهنيًا وميدانيًا، وتركت فراغًا ملأته الفوضى، وملأته كذلك الكيانات الموازية، وكل جهة تتحدث باسم الشعب بطريقتها.


المنظمات الدولية.. الحضور الغائب

أما المنظمات الدولية، فرغم مليارات الدولارات التي أُعلنت في مؤتمرات المانحين، لا تزال المخيمات بلا خدمات كافية، والنازحون يشتكون من غياب المساعدات. تُتهم بعض المنظمات بالتحيّز السياسي، حيث يُوزع الدعم عبر كيانات محلية مرتبطة بأطراف النزاع، ما يحرم فئات واسعة من أبسط الحقوق. كما تتورط بعض الجهات العاملة في القطاع الإنساني بفساد إداري، أو بإدارة المشاريع من الفنادق في الخارج، دون فهم حقيقي للواقع الميداني. المواطنون لا يريدون وجبات جاهزة، بل مشاريع مستدامة: مدارس، عيادات، فرص عمل، واحترام لإنسانيتهم.


لاجئون في وطنهم

أكثر من 4.5 مليون نازح داخلي، يعيشون في الخيام، أو مدارس، أو في العراء. عبدالرحمن، طفل في مخيم الرباط، يقول: "ما بش مدرسة. أمي تمرض كثير. نأكل رز وماء. أبي راح يدور عمل ما رجع." لا توجد حلول جذرية، ولا خطط حكومية فعلية لدمج النازحين أو تخفيف معاناتهم. الحياة داخل المخيم أقرب إلى معركة يومية من أجل البقاء، تخوضها الأمهات بصبر، ويكافح فيها الأطفال للتشبث بطفولتهم المسروقة. إنهم اليمنيون، لكن لا أحد يتعامل معهم كأبناء بلد، بل كأزمة مؤقتة لا يرغب أحد في الاقتراب منها.


اليمن الذي نعرفه.. واليمن الذي نخشاه

قبل الحرب، كان لليمن هوية جامعة. لكن اليوم، بات كل طفل يمني يتلقى خطابًا مختلفًا عن الآخر. في صنعاء، يسمع شعارات الجهاد والانغلاق المذهبي، في عدن يسمع خطاب التمييز المناطقي، في تعز تُروى له حكايات الكتائب، أما في الحديدة فيُنصت للصمت، لأن لا أحد يتحدث. المدرسة لم تعد مكانًا للتعليم، بل وسيلة تعبئة؛ يختفي المنهج الوطني لتظهر المناهج المفخخة. جيل بأكمله ينمو في بيئة ممزقة، لا يعرف ماذا تعني الجمهورية، ولا من هو الرئيس، ولا كيف يكون الوطن واحدًا.


– رماد المدن وصوت الناس

في اليمن، كل شيء قابل للاشتعال، لكن لا شيء قابل للحياة. المدن التي كانت مأوى للفرح والذاكرة، أصبحت كوابيس قائمة. صنعاء تقمع، تعز تنهار، عدن تذبل، مأرب تختنق، الحديدة تموت، حضرموت على شفا تمزق. والشرعية منشغلة بنقل اجتماعاتها من فندق إلى آخر، والجماعات تتقاسم الولاء والجباية، والمواطن يدفع الثمن. لكن وسط هذا الرماد، هناك بقايا ضوء، تأتي من أم تطبخ على الحطب، من معلم بلا راتب، من شاب يفتتح مشروعًا رغم الظلام. إنها تفاصيل صغيرة، لكنها دليل على أن اليمن لم يمت. المرحلة القادمة ليست معركة سلاح، بل معركة إرادة: هل نُعيد بناء الدولة، أم نُسلم الوطن لأمراء الخراب؟ الإجابة تبدأ من الاستماع للناس، من وضعهم أولًا، من الاعتراف بأننا – إن لم ننقذ الإنسان اليمني – فلن يبقى لدينا يمن ننقذه أصلًا.