آخر تحديث :الإثنين-15 ديسمبر 2025-11:49م

الجهل كدولة… والوعي كمعركة: كيف حوّل الحوثي المجتمع إلى مساحة للظلام

الجمعة - 12 ديسمبر 2025 - الساعة 10:57 م
نجيب الكمالي

بقلم: نجيب الكمالي
- ارشيف الكاتب


في المجتمعات التي تُبنى فيها السلطة على الطاعة لا على المعرفة، يصبح الجهل ليس مجرد حالة اجتماعية، بل مشروعًا سياسيًا كاملًا. هذا ما يتجلى بوضوح في تجربة الحوثي داخل اليمن، حيث تحولت الحركة من جماعة مسلحة إلى منظومة متكاملة لإعادة إنتاج الجهل وإدارة المجتمع عبر إضعاف وعيه لا عبر خدمته. فالحوثي لا يواجه الجهل ولا يقاومه، بل يعيد تشكيله وتغذيته وتحويله إلى أداة للحكم، وإلى مادة خام تُصنع منها الطاعة ويُعاد بها تشكيل الإنسان.


من اللحظة الأولى لسيطرتها، أدركت الحركة أن المعرفة هي الخطر الأكبر على أي مشروع أيديولوجي مغلق. لذلك احتكرت المعلومة، وصادرت الإعلام، وجعلت من صوت واحد ورواية واحدة ووجهة نظر واحدة أساسًا للحياة العامة. كل ما يخرج عن هذه الرواية يوضع في خانة العداء أو الخيانة أو العمالة. وهكذا لم يعد الجهل نتيجة ضعف مؤسسات، بل قرارًا مقصودًا يحفظ السلطة من الأسئلة ويضمن بقاء المجتمع في حالة غموض دائم، لا يعرف ماذا يجري، ولا يحق له أن يعرف.


وتحوّل الدين إلى وسيلة لتعزيز الجهل، لا لتنوير المجتمع. فبدل أن يكون الدين دعوة للعدل والوعي والحكمة، أصبح مادة تعبئة تُستخدم لإضفاء القداسة على المشروع السياسي، ولجعل الطاعة واجبًا دينيًا لا نقاش فيه. صارت الخطب والدروس منابر لتعظيم القائد، وإعادة تدوير التاريخ، وصناعة رواية سلالية تريد أن تُقنع المجتمع بأن الحاضر والمستقبل لا يكتملان إلا في ظل الإمام الجديد. وهكذا يرتفع الجهل من مستوى الأفكار الخاطئة إلى مستوى “الجهل المقدّس”، وهو أخطر أشكال الجهل لأنه محصّن ضد النقد.


ومع سيطرة الحوثي على الفضاء التكنولوجي، لم تعد شبكات التواصل وسيلة معرفة أو أداة للتفكير الحر، بل أصبحت جزءًا من ماكينة ضخمة لبث الأكاذيب والشائعات وصناعة وعي بديل يطغى على الواقع. حُجبت المواقع، وقُيّد المحتوى، وتعمل آلاف القنوات في تيليغرام وواتساب على تزييف الوعي، وتحويل المواطن إلى مستهلك يومي لروايات مصطنعة لا علاقة لها بالحقائق. وكلما زاد انغلاق المجتمع، زادت سهولة زرع الكراهية والخوف والهلع داخله.


أما التعليم، فهو الحلقة الأخطر. إذ جرى تفريغ المدرسة من وظيفتها الحضارية وتحويلها إلى مصنع لإنتاج جيل مطيع، لا يسأل ولا يفكر ولا يحلم. عُدّلت المناهج لتخدم الأيديولوجيا، لا العقل، ولتعيد إنتاج رؤية ضيقة للتاريخ والهوية والوطن. ومع انهيار الاقتصاد وتوسع الفقر، أصبح الإنسان مشغولًا بالبقاء على قيد الحياة أكثر من اهتمامه بالسؤال أو المعرفة. الفقير لا يناقش… والجائع لا يحتج… والمرهق لا يبحث. وهكذا يصبح الجهل بيئة يعيش فيها الناس تلقائيًا، لا حاجة لفرضه.


وفي ظل عسكرة الحياة، تلاشى المجتمع المدني وأصبحت مؤسسات الدولة مجرد واجهات شكلية. الطفولة تُساق إلى الجبهات باسم “الثقافة القرآنية”، والبيوت تُحوّل إلى نقاط تعبئة، والعمل العام يُختصر في الولاء والجباية. ومع مرور الوقت، يصبح كل شيء خاضعًا لآلة تعيد إنتاج الجهل بصورة يومية: الإعلام، التعليم، المسجد، الشارع، وحتى أبسط تفاصيل الحياة.


الحوثي، في النهاية، ليس مجرد طرف داخل منظومة الجهل، بل هو المنظومة نفسها. مشروعه يقوم على تحويل الناس من مواطنين إلى أتباع، ومن أفراد أحرار إلى أدوات داخل ماكينة السلطة. لا يريد دولة تحكم بالقانون، بل سلطة تحكم بالعقيدة. ولا يريد مجتمعًا يفكر، بل مجتمعًا يطيع. ولذلك فإن أخطر ما يواجهه اليمن اليوم ليس الحرب وحدها، ولا الفقر وحده، بل هذا المشروع الذي يجعل الجهل قاعدة، والخوف لغة، والطاعة قانونًا أعلى من كل القوانين.


إن مقاومة الحوثي لا تبدأ بالبندقية، بل تبدأ باستعادة الوعي. فكل وعي ينشأ… يسقط معه جزء من سلطة الجهل. وكل معرفة تنتشر… تتراجع معها مساحة الخوف. وكل سؤال يخرج للعلن… يضعف جدار الوهم الذي تحاول الحركة إقامته حول الناس. فالمعارك السياسية قد تتوقف، والحروب قد تهدأ، لكن معركة الوعي هي التي تقرر مصير اليمن، حاضرًا ومستقبلًا.