آخر تحديث :Sat-13 Dec 2025-05:11PM

مَتَى نَحْتَاجُ أَنْ نَكُونَ يَمَانِيِّينَ؟: دِرَاسَةٌ فِي التَّمَايُزِ وَالهَوِيَّةِ ( 1/ 5)

الخميس - 11 ديسمبر 2025 - الساعة 11:46 ص
د. مجيب الرحمن الوصابي

بقلم: د. مجيب الرحمن الوصابي
- ارشيف الكاتب


كأَنَّ رِقابَ الناسِ قالَت لِسَيفِهِ رَفيقُكَ قَيسِيٌّ وَأَنتَ يَمانِ ( المتنبي)



يُ

مَثِّلُ الصراع القبلي القديم بين القيسية واليمانية ظاهرة محورية في نسيج التاريخ العربي والإسلامي، متجاوزًا حدود مجرد نزاع على النفوذ أو الغنائم. بل كان هذا التنافس، في ضوء القراءات التاريخية، بمثابة الإطار الخلّاق الذي أسهم في صياغة وتشكيل الذات اليمانية المتمايزة كما نرى عبر المواجهة المستمرة مع (الآخر) القيسي. إنّ الوجود القيسي، بصفته المنافس والنقيض، لم يكن عاملًا سلبيًا فحسب، بل كان المحرّك الرئيس لصناعة وعي ذاتي يماني عميق ومستديم.


هَذَا هو التوثيق الحقيقي لنشأة العصبية اليمانية وتمايزها، يعود الأصل في التقسيم التاريخي للعرب إلى مجموعتين رئيسيتين: الشماليون الذين ينحدرون من نسل عدنان كما في كتب الأنساب ومثّلتهم في الصراع قبائل قيس بشكل بارز، والجنوبيون الذين ينحدرون من نسل قحطان (اليمانية). وعلى الرغم من موجات النزوح التاريخي التي دفعت قبائل يمنية عريقة مثل الأزد، والأوس، والخزرج وخزاعة للاستقرار في الشمال بعد حوادث كبرى كـانهيار سد مأرب (أزمات اقتصادية طاحنة، إ

لا أنها نجحت في الاحتفاظ بهويتها اليمنية الأصيلة في مواجهة العدنانية/القيسية.


وَمَعَ بزوغ فجر الإسلام، بقيت هذه الولاءات القبلية حاضرة، وقوتها مؤثرة في صراعات الخلافة والمعارك الكبرى، ليستمر هذا التنافس ويغدو عاملًا حاسمًا في مسار الدول الإسلامية المتعاقبة. ففي عهد علي بن أبي طالب ومعاوية، أثّر توازن القوى بين المجموعتين بشكل بالغ على سير الانتصارات والخسائر. وقد استغل الخلفاء الأمويون هذا الانقسام بذكاء سياسي، فارتفعت مكانة القيسية في بعض العهود، بينما استعادت اليمنية نفوذها وقوتها في فترات لاحقة، كما تجسّد ذلك في موقعة مرج راهط عام 64 هـ. ولم يتوقف الحضور اليماني عند هذا الحد، بل واصل تكريس تحالفاته السياسية في الأندلس والدولة العباسية، ما عزّز من حضوره وهويته المميّزة ضمن هياكل السلطة.


يُمْكِنُ فهم الذات اليمانية على أنها هوية مُنتَجَة بشكل مباشر عبر تفاعلها ومواجهتها مع القيسية. لقد تبلورت الهوية اليمنية من خلال التناقض والحد الفاصل مع الهوية القيسية، بحيث أصبح تعريف الذات متجذّرًا في الهوية (الجنوبية/القحطانية) في مقابل الهوية (الشمالية/العدنانية). هذا التضاد هو الذي شكّل الوعي بالذات الجماعية المستقلة. كما أن مُشاركة اليمانية الفاعلة في التنافس على السلطة والمناصب العليا، دفعتها لاكتساب خبرة سياسية عميقة وتمركز ضمن الدولة، مما أسهم في بلورة وعي ذاتي جماعي. بل إن الخلفاء والولاة استغلوا هذا الانقسام الاستراتيجي لمنح الهوية اليمنية حضورًا مؤسساتيًا ضمن أجهزة السلطة. وحتى في لحظات هزائمها أمام القيسية، حافظت اليمنية على وجودها كطرف متميز، الأمر الذي رسّخ وعيها الذاتي. و

لم ينطفئ وهج هذا الصراع بانتهاء الدول التاريخية، بل ترسّخت الهوية القبلية في الشعائر والمظاهر الاجتماعية والرمزية حتى العصر الحديث، مثال ذلك استخدام ألوان علم اليمنية (الأبيض) مقابل علم القيسية (الأحمر) في بعض مناطق الشام كرمز للولاء القبلي.


كَانَ لهذا الصراع تداعيات عميقة ومتناقضة. فمن جهة، أضعف القبيلة العربية بوجه عام جراء استنزاف القوى والموارد، مما أدّى إلى تراجع تأثيرها في السلطة السياسية على المدى الطويل. وفي المقابل، رسّخ الهوية اليمنية كذاكرة تاريخية جماعية حية تتضمن الفخر بالأصل القحطاني ووعيًا عميقًا بالتمايز عن (الآخر). يُعدّ هذا التمايز عنصرًا مهمًا ما زال حاضرًا في الثقافة والفلكلور المحلي. يظل الصراع القيسي اليماني نموذجًا فذًا لفهم كيف يمكن للآخر أن يُشكّل الذات الجماعية، وكيف تتفاعل الهوية القبلية الثابتة مع متغيّرات السلطة ومعطيات التاريخ المشترك في السياق العربي والإسلامي. إنها قصة البحث الدائم عن الهوية في خضم صراعات القوة.


مجيب الرحمن الوصابي