م.عبدالناصر صالح ثابت
صحيح أن إرادة الجنوبيين في استعادة حقهم، وتضحياتهم المستمرة منذ عام 1994، هي مربط الفرس في فهم ما
آلت إليه الأوضاع؛ إذ أدّت تلك المرحلة بما حملته من صراع وظلم إلى فشل مشروع الوحدة السلمية، ورسّخت
القناعة لدى الجنوبيين بأن طريق الاستقرار يبدأ من فك الارتباط واستعادة الدولة الجنوبية.
غير أن التطورات التي شهدتها اليمن في السنوات الأخيرة أبرزت أن مشروع الدولة الجنوبية ليس مجرد مطلب
لشعب الجنوب أو امتداد طبيعي لمسار تاريخي من التحولات؛ بل أصبح اليوم خيارًا جادًا تفرضه اعتبارات
الاستقرار الإقليمي ومتطلبات الأمن الدولي. فالتغيّرات المتسارعة، وما رافقها من اصطفافات جديدة وتحوّل في
موازين القوى، أعادت طرح مشروع الدولة الجنوبية بوصفه مدخلًا عمليًا لإنهاء دورة الفوضى التي تهدد المنطقة
برمتها.
لقد أثبتت التجربة أن استمرار الوضع الحالي في اليمن يفاقم هشاشة الأمن البحري في واحد من أهم الممرات
العالمية، مضيق باب المندب، ويوفّر بيئة خصبة للصراعات بالوكالة وتنامي التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود.
ومع كل محاولة لفرض الوحدة بالقوة أو عبر صيغ سياسية غير واقعية، كانت الأزمات تتعمق، في حين ظل
الجنوب محتفظًا بصلابته النضالية، وأثبت خلال مختلف المراحل وقوفه إلى جانب المجتمع الدولي في محاربة
الجماعات الإرهابية، وانفتاحه على الشراكات التي تحمي مصالح الآخرين وتعزّز الأمن الإقليمي والدولي.
إقليميًا، يمثّل قيام دولة الجنوب العربي خطوة لإعادة تشكيل توازنات أكثر استقرارًا في شبه الجزيرة العربية،
توازنات قائمة على شراكات آمنة وواضحة مع دول الجوار بدلًا من الاعتماد على كيانات منهكة. فالاستقرار في
عدن وحضرموت والمهرة لا يخدم الجنوب وحده، بل يوفر عمقًا استراتيجيًا للمنظومة الخليجية، ويخفف من ضغوط
التحولات الجيوسياسية المتسارعة. إن دولة جنوبية قوية، قادرة على حماية حدودها وإدارة مواردها، ستكون عنصر
دعم للأمن الإقليمي لا عبئًا عليه.
أما دوليًا، فقد أصبح الجنوب موقعًا محوريًا في حسابات القوى الكبرى، نظرًا لأهميته في تأمين الملاحة الدولية
وسلاسل الإمداد العالمية. وفي ظل التنافس المتصاعد على الممرات البحرية، يغدو وجود دولة مستقلة وقادرة في
الجنوب خيارًا عمليًا للعالم، أكثر جدوى من الاعتماد على دولة ممزقة أثبتت عجزها عن ضبط حدودها ومرتعًا
للإرهاب والعنف. ولهذا صار اليوم الجنوب جزءًا من معادلة الأمن الدولي التي تبحث عن شركاء مستقرين
وفاعلين.
إن مشروع الدولة الجنوبية لا يرتبط فقط بحق تقرير المصير، بل بضرورة بناء بيئة إقليمية أكثر استقرارًا. وقد
وصلت دول الإقليم والمجتمع الدولي اليوم إلى قناعة تامة بأن عودة الجنوب إلى دولته المستقلة يشكّل مدخلًا
ضروريًا لتحقيق التوازن والانسجام مع محيطه العربي والدولي.
وعليه، لم يعد الحديث عن دولة الجنوب العربي استفزازًا سياسيًا أو عسكريًا، بل استحقاقًا تاريخيًا تلتقي عنده
مصلحة الداخل مع حسابات الإقليم ومتطلبات المجتمع الدولي. ومع اقتراب لحظة الحسم، يصبح الاعتراف بهذه
الحقيقة ضرورة يفرضها منطق الواقع الجديد.