م. عبدالناصر صالح ثابت
في عصر تتسارع فيه الأحداث وتزدحم فيه المعلومات، ظهر البودكاست كمنصة صوتية تمنح المستمع فرصة التركيز
والغوص في المحتوى بعمق. هذه الوسيلة الإعلامية نشأت نتيجة طبيعية لتطور الإنترنت ووسائل الاتصالات الحديثة،
وأصبحت اليوم مساحة فكرية وثقافية تتيح التعلم المنهجي، وإجراء الحوارات المطوّلة، وسرد القصص الشخصية بطريقة
مباشرة وجذابة.
بدأت الفكرة في أوائل الألفية الجديدة، وتحديدًا في عام 2004، حين ابتكر المذيع الأمريكي آدم كوري والمبرمج ديف وينر
تقنية تتيح تنزيل الحلقات تلقائيًا عبر الإنترنت، والمعروفة بـ RSS، والتي حررت المحتوى الصوتي من زمن البث التقليدي.
أما التسمية، فقد اقترحها الصحفي البريطاني بن هامرسلي في مقال بصحيفة الغارديان، بدمج كلمة Pod من جهاز iPod
وCast من Broadcasting أي البث، لتصبح “Podcast” – بودكاست رمزًا لعصر جديد من الإعلام الصوتي الحر الذي
يستجيب لطلب المستمع بعيدًا عن التزامية التوقيت.
يمكن تشبيه البودكاست براديو الإنترنت، لكنه يختلف جذريًا عن الراديو التقليدي في أسلوب العمل والجمهور المستهدف.
فبينما يسعى الراديو للوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من المستمعين عبر محتوى عام، يركز البودكاست على جمهور محدد
يهتم بموضوع معين بعمق. ومع مرور الوقت، تجاوز عدد مستمعي هذه المنصات عدد مستمعي الراديو التقليدي في العديد من
الدول المتقدمة، مؤكدًا أهمية التخصص في جذب ولاء المستمع.
يشهد العالم العربي نهضة ملحوظة في إنتاج البودكاست، الذي أصبح متنفسًا للشباب ومساحة للإبداع بعيدًا عن قيود الإعلام
التقليدي. ويعتمد نجاحه على خمس ركائز أساسية: الاحترافية، جودة المحتوى، تأمين الدعم المادي والإعلاني، الدعم
المؤسسي والأكاديمي، وضمان الاستدامة. تقدم هذه البرامج محتوى متنوعًا يشمل الثقافة والتعليم والفنون، وحتى السياسة
والتاريخ، وجذبت جمهورًا يفضل الغوص في العمق على استهلاك المعلومات السريعة.
وفي هذا السياق، أصبح من الضروري أن يكون الصحفي اليوم متعدد الوسائط وشاملًا، قادرًا على التكيف مع المتغيرات
الرقمية. لم يعد يكفي إنتاج المواد المكتوبة أو التقارير التلفزيونية، بل يتوجب عليه امتلاك القدرة على إنتاج محتوى صوتي
جذاب ومناقشة الموضوعات بعمق عبر البودكاست. وعلى الصحف والمواقع الإعلامية دمج بودكاست خاص ضمن منصاتها،
ليصبح مساحة تفاعلية تُشرك المستمعين وتمنح الصحفيين فرصة لتعميق التحليل بعيدًا عن حدود النصوص المطبوعة أو
الفيديو السريع.
لكن البودكاست ليس خاليًا من التحديات الجوهرية؛ فغياب التشريعات الموحدة التي تنظم الحقوق والبث، وصعوبة التمويل
المستقر للمنتجين المستقلين، وغياب التدريب الصوتي المتخصص على مهارات الحوار والتحرير، قد يعرقل نموه الاحترافي.
كما أن بعض البرامج قد تواجه مشاكل في الجودة أو المصداقية إذا افتقدت المراجعة والتحرير المهني.
ومع ذلك، يبقى المستقبل واعدًا، مدعومًا بالذكاء الاصطناعي وتقنيات التحرير الصوتي والفيديو بودكاست، التي ستسهم في
إنتاج محتوى أكثر احترافية وبتكلفة أقل. يمثل البودكاست عنصرًا مكملاً وداعمًا لوسائل الإعلام الأخرى، وفي عالم سريع
الانشغال، تظل هذه الوسيلة تعيد للإنسان صوته وتتيح له الاستماع والتعلم بحرية وعمق. لكن المؤسف حقًا أن العالم العربي
غالبًا ما يكتفي باستهلاك الأفكار ونقلها دون ابتكار يدهش الآخرين، ما يجعله شعبًا مستهلكًا حتى في المجال الإعلامي.