حقيقة يجب أن نؤمن بها بأن العلاقات الإقليمية في عالم اليوم، لم تعد تدار بمنطق الأخوة أو المصير المشترك، إنما تحكمها لغة الجدوى والفعالية والصورة الإعلامية، وهي مفردات صاعدة في زمن تحول فيه الفعل السياسي إلى إدارة تقنية باردة خالية من الإحساس الأخلاقي والذاكرة التاريخية.
من هنا يمكن قراءة المشهد الجديد في الرياض، استقبال رسمي ضخم للرئيس السوري أحمد الشرع، يفيض رمزية واحتفاء، بينما يقف اليمن بكل قربه الجغرافي وعمقه التاريخي، على هامش الصورة، كجار منسي، تائه في هامش أولويات الذهنية السعودية.
لكن في المقابل استطاعت سوريا أن تُعيد ولو شكلياً إنتاج سرديتها التاريخية، خطاب الدولة المركزية، فكرة السيادة، وصورة الصمود، هذه السردية رغم هشاشتها منحتها شرعية رمزية في المخيال السعودي والعربي، لأنها تخاطب حاجة المنطقة إلى دولة قوية ولو كانت مجروحة، في زمن لم يعد فيه وجود إلا لمن يُتقن فن الظهور.
لم يعد الأمر مجرد تفضيل دولة على أخرى، بقدر ما هو تجلي لوعي سياسي جديد، يفرغ العلاقات من بعدها القيمي، ويعيد ترتيب الجوار وفق منطق السوق السياسي، الفاعل الموثوق، الشريك الناجح، والحليف القابل للاستثمار، سوريا بصلابتها ورجالها القادرين على التفاوض بلغة القوة، استطاعت أن تعيد تموضعها في ذاكرة المنطقة والعالم، أما اليمن، فظل رهينة شرعية رخوة، بلا خطاب، بلا مشروع، وبلا روح جماعية قادرة على إنتاج صورة تحترمها الجغرافيا أو تصغي إليها السياسة.
العار هنا ليس شعوراً عاطفياً، بقدر ما هو علامة على سقوط السياسة كقيمة، حين تُدار العلاقات بين الدول بمنطق التسويق بدلاً عن منطق التاريخ.
الشرعية اليمنية كما تبدو في مخيال الرياض، ليست مشروع دولة، هي أقرب إلى جهاز إداري مُستهلك، فقد مضمونه الأخلاقي والسيادي معاً، وأصبح يكرر خطاب المرونة والاستقرار كما يردد المدير العام عبارات الكفاءة والإنتاجية، وهكذا تحولت الشرعية من تمثيل سياسي إلى بنية تكنوقراطية جوفاء، تعيش على ريع الدعم الخارجي، وتدير الأزمة كما تُدار شركة خاسرة بموظفين فاشلين، وفي هذا السياق، أُفرغت الشرعية اليمنية من مضمونها الوطني، وأصبحت امتداداً بيروقراطياً لقرار إقليمي، فاقدة لكل عمق تاريخي أو اجتماعي.
لذلك فقدت الشرعية اليمنية ما يسميه المفكر المغربي عبدالله العروي بـ الشرعية التاريخية، أي تلك التي تُستمد من سردية وطنية مشتركة تؤطر المجتمع والدولة، ولذا لم يعد في مقدور العليمي ومن معه أن ينتجوا حتى وهماً وطنياً، كل ما تبقى هو لغة التبرير، وإدارة الانتظار، وصمت يشبه العار.
وفي المقابل أعادت الرياض اكتشاف الشرع كرمز للفاعلية السياسية في زمن الانكماش العربي، ولم تكن الزيارة حدثاً بروتوكولياً، بقدر ما كان إعلاناً عن إعادة توزيع المعنى في خريطة النفوذ الإقليمي، سوريا التي واجهت ودفعت أثماناً باهظة، عادت لتقول إنها ما زالت تمتلك المفتاح الذي فُقد من أيدي آخرين، فيما ضحكة الشرع أمام ولي العهد لم تكن عفوية بقدر ما كانت ابتسامة الوعي بالتموضع الجديد، وإدراك أن السياسة اليوم هي إدارة الرموز، وأن من يتقن فن الخطاب سيُصغي له السوق السياسي حتى وإن كانت بلاده تحت الركام.
أما اليمن فبقيت تُدار بخطاب التنمية الذاتية، وتحفيز الأفراد، ووعود بالإصلاح، خطاب يُعيد إنتاج العجز نفسه في صيغ منمقة، ولذا وبسبب هذا العجز يُختزل اليمن اليوم في ملف أمني على طاولة المخابرات، وإلى مشروع استثماري ينتظر المانحين، وإلى شرعية فاقدة للكرامة وللناموس.
وفي هذا الأفق الكئيب، تتبدى المفارقة المؤلمة، سوريا رغم جراحها استعادت موقعها في الصورة، واليمن رغم قربه غاب عن الوعي، الأولى حضرت كرمز للقدرة، والثانية كغياب للقدرة، وهنا يكمن وجعنا كيمنيين.