تمتدّ تهامة كسهولٍ ساحلية خصبة على امتداد البحر الأحمر، وتشكل بوابة اليمن الغربية على العالم منذ أقدم العصور. فهي ليست مجرد منطقة جغرافية، بل فضاء إنساني وثقافي زاخر بالتنوع والثراء. ومع ذلك، كانت تهامة عبر التاريخ مسرحًا لصراعٍ طويل مع أنظمة الحكم المركزية، وخصوصًا مع الإمامة الزيدية التي حكمت شمال اليمن قرونًا. فقد ظلت تهامة، برجالها ونسائها، عصيةً على الخضوع، حاربت الكهنوتية الدينية والسياسية، وقدمت الغالي والنفيس في سبيل كرامتها وحرّيتها. لم تكن تهامة يومًا مجرد إقليم جغرافي على خارطة اليمن، بل كانت قلبًا نابضًا بالحرية وروحًا مقاومة لكل أشكال الهيمنة والاستبداد. تُعد تهامة من أقدم المناطق الحضارية في الجزيرة العربية، إذ احتضنت مدنًا مزدهرة كزبيد التي كانت عاصمة للعلم والمعرفة في القرون الوسطى، وواحدة من أعرق الحواضر الإسلامية في العالم. لكن ما جعل تهامة مميزة في التاريخ اليمني ليس فقط ازدهارها الحضاري والاقتصادي، بل موقفها الثابت من السلطة الإمامية الزيدية التي سعت عبر قرونٍ لفرض سيطرتها المركزية ذات الطابع الديني السلالي، في حين تمسكت تهامة بمبادئ المساواة والانفتاح. هذا الصراع بين مشروعٍ كهنوتي مغلق ومجتمعٍ مدني منفتح لم يكن مجرد مواجهة عسكرية، بل مواجهة فكرية وثقافية وإنسانية طويلة، تشكلت عبرها هوية تهامة المقاومة. شهد التاريخ اليمني فتراتٍ متكررة من محاولات الأئمة السيطرة على تهامة. ففي القرون الوسطى، سعت الدولة الزيدية من صعدة وصنعاء إلى إخضاع زبيد وهي مركز تهامة الرئيسي لما تمثله من ثقلٍ علمي وتجاري. لكن زبيد، التي كانت في تلك الفترة عاصمة للدولة الرسولية ثم الطاهرية، بقيت عصيّة على الترويض. تعاقب الأئمة على مهاجمة تهامة، وكان آخرهم الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم في القرن السابع عشر الذي تمكن من دخول بعض مدنها مؤقتًا، غير أن المقاومة التهامية أعادت التوازن سريعًا.
في تلك الحقبة، استخدم الأئمة أساليب شتى لإخضاع تهامة ففرض الضرائب الباهظة والمكوس على المزارعين والتجار. ومصادرة الأراضي الخصبة لصالح بيت المال أو الأسر الزيدية المقربة. وأيضاً إرسال ولاة عسكريين من المرتفعات يسيئون معاملة الأهالي. وتهميش الكوادر المحلية واحتكار القضاء والإدارة في يد الموالين. ورغم هذه السياسات، لم تتوقف حركات العصيان في تهامة، إذ كانت القبائل التهامية تنظم انتفاضات متكررة ضد جباة الأئمة، وتلجأ إلى المقاومة المسلحة كلما تجاوزت السلطة المركزية حدودها. بل إن بعض المؤرخين يصفون تهامة بأنها “الخاصرة التي أرهقت الأئمة”، إذ لم يتمكن أي إمام من السيطرة الكاملة عليها لزمنٍ طويل. منذ بواكير الدولة الزيدية في صعدة وصنعاء في القرن الثالث الهجري، واجهت الإمامة صعوبةً في إخضاع تهامة. فالتهاميون اعتادوا حياة الانفتاح التجاري والتنوع المذهبي والثقافي، في حين ارتكزت الإمامة على نظام مغلق يقوم على الوراثة المذهبية والسلطة الدينية. ورغم محاولات الأئمة المتكررة لفرض سيطرتهم على مدن تهامة الكبرى كزبيد، والحديدة، واللحية، إلا أن المقاومة الشعبية لم تهدأ. كانت تهامة بالنسبة للإماميين دوماً نقطة انطلاق للثورات والحركات التحررية. برزت في تاريخ تهامة شخصيات وقبائل قاومت الهيمنة الزيدية، واستطاعت أن تصمد رغم ضعف الإمكانيات. وكثيرًا ما لجأت الإمامة إلى القمع والضرائب القاسية ومصادرة الأراضي، لكنها لم تستطع أن تنتزع من التهامي حبه للحرية وتمسكه بكرامته. حين اندلعت ثورة 26 سبتمبر 1962 التي أنهت حكم الإمامة الزيدية، كانت تهامة في مقدمة الصفوف. انخرط أبناؤها في صفوف الجيش الجمهوري، وشاركوا في معارك التحرير من صعدة حتى صنعاء، وساهموا في دعم الجمهورية الوليدة بكل ما يملكون. لم يكن نضال تهامة في تلك المرحلة مجرد موقف سياسي، بل امتدادًا لصراعها التاريخي ضد الاستبداد والإقصاء، وإيمانًا منها بأن قيام الجمهورية يمثل خلاصًا من قرونٍ من الظلم الطبقي والمذهبي. لكن ما لبثت الآمال أن اصطدمت بالواقع. فبعد انتصار الثورة، تسلّم السلطة في صنعاء نخب سياسية وعسكرية كان معظمها من نفس المناطق والمكونات التي حكمت في عهد الإمامة، وإن تغيّر الاسم والشكل. بدا وكأن الأنظمة الجمهورية المتعاقبة ورثت الذهنية المركزية القديمة، فعوملت تهامة كما لو كانت “المنطقة الخاسرة” في معادلة السلطة.
جرى تهميش تهامة سياسيًا واقتصاديًا بشكلٍ ممنهج لم تحظَ بتمثيل عادل في مؤسسات الدولة. وحُرمت من مشاريع التنمية، رغم أنها أغنى مناطق اليمن زراعيًا وتجاريًا. وظل أبناؤها بعيدين عن المناصب القيادية، بينما استُنزفت ثرواتها الطبيعية والبحرية. أن هذا التهميش كان وجهاً جديداً لعقابٍ قديم، وأن الطبقات الحاكمة الجمهورية حملت في طياتها إرث الإمامة، وكأنها تنتقم من تهامة على مواقفها التاريخية. مع سيطرة الاماميين الجدد متمثلة بـميليشيا الحوثي على صنعاء عام 2014، وجد أبناء تهامة أنفسهم أمام مشهد يعيد إلى الأذهان حقبًا غابرة. فالفكر الذي تحمله الجماعة امتداد مباشر للإمامة الزيدية القديمة، بأسلوبها العقائدي ونزعتها السلالية.
ومرة أخرى، تحولت تهامة إلى ساحة مواجهة. فمدنها الساحلية كـالحديدة والخوخة وحيس كانت خطوط تماسٍ بين مشروع الجمهورية ومشروع الإمامة المتجددة. نظم أبنائها الحراك التهامي السلمي وقدّم أبناؤها تضحيات كبيرة في صفوف المقاومة التهامية والقوات المشتركة دفاعًا عن الأرض والكرامة، في مواجهة مشروع يسعى لإعادة اليمن إلى عصور الوصاية الدينية والتمييز الطبقي. لكن في المقابل، تعاني تهامة اليوم أوضاعًا إنسانية واقتصادية بالغة القسوة. فالحرب دمّرت بنيتها التحتية، وشردت آلاف الأسر، فيما لا تزال مؤسسات الدولة المركزية تتعامل معها كمنطقة هامشية لا كإقليم أصيل في جسد الوطن. إنها مأساة متكررة تهامة التي قاتلت ضد الكهنوت، تعاني اليوم من نتائجه مرة أخرى. رغم كل ما واجهته، تظل تهامة رمزًا للصمود والكرامة. في شواطئها الهادئة وحقولها الخصبة ووجوه أبنائها البسطاء، تتجلى روح اليمن الحقيقي روح العمل والحرية والمقاومة. ولعل أبرز ما يميز تهامة هو أن نضالها لم يكن مذهبيًا ولا مناطقيًا، بل إنسانيًا ووطنيًا، هدفه العدالة والمساواة.
ولذلك، فإن إنصاف تهامة اليوم ليس منّة من أحد، بل استحقاقٌ تاريخي لشعبٍ قدّم الكثير وبقي على الهامش. إن صراع تهامة مع الإمامة ليس حدثًا عابرًا في التاريخ اليمني، بل تجسيدٌ دائم لصراع اليمنيين مع كل أشكال الاستبداد والتسلط. فمنذ قرونٍ وهي تدفع ثمن تمسكها بالحرية، مرة باسم الدين، وأخرى باسم الجمهورية. لكن التاريخ علمنا أن تهامة، مهما طال تهميشها، لا تموت. ستظل تهامة الأرض والإنسان صفحة مشرقة في سجل الكرامة اليمنية، وشاهدًا على أن إرادة الشعوب لا تُكسر، مهما حاولت الإمامة القديمة أو الجديدة أن تعيد عقارب الزمن إلى الوراء.