آخر تحديث :الإثنين-03 نوفمبر 2025-01:05م

الشرعية ووهم النصر... قراءة في الحالة النفسية والسياسية

الخميس - 23 أكتوبر 2025 - الساعة 02:16 م
مصطفى المخلافي

بقلم: مصطفى المخلافي
- ارشيف الكاتب


ينتابني شعور غريب، مزيج من الدهشة والشفقة، كلما أطلقت الشرعية صفارة الفرح معلنة انشقاق قيادي حوثي، كما لو أن هذا الحدث المعزول يكفي ليعيد تشكيل خارطة الحرب، لحظة احتفالية تُقدم لنا باعتبارها النصر المنتظر، كأننا أمام مشهد سينمائي بائس تلونه كاميرا خجولة تُصور المنشق وكأنه جاء من كوكب بعيد يحمل في يده مفتاح الجمهورية، وكم من صورة يُراد لها أن تكون بديلاً عن الواقع.


هل هذه هي ثمرة الأعوام الطويلة؟ هل أُجتهدت مؤسسات الشرعية بكل ما فيها من طاقات وكفاءات، أو ما تبقى منها فقط من أجل اقتناص نصر يتيم يتجسد في ابتسامة قائد حوثي سابق، تم الترويج له كأنه تشي جيفارا يخلع بزته القديمة ليرتدي قميص الوطن؟


أنا هنا لا أُشكك في مبدأ الانشقاق نفسه، ولا أعارض أن يعود المغرر بهم إلى جادة الصواب، بل أشجع عليه، لكن أن يتحول هذا الانشقاق إلى حفل تتويج أو يُصاغ كإنجاز تاريخي، فتلك قمة المفارقة، المسألة ليست في أن ينشق فرد، ولا أن يُقدم هذا الفرد كأنه المخلص المنتظر، رغم تاريخه الدموي أحياناً، وكأن مجرد انتقاله من خندق إلى خندق يُغسل بوسائل الإعلام دون الحاجة لمحكمة أو ضمير.


وكأن الشرعية لا تسعى إلى النصر، بقدر ما تسعى إلى مشهد صغير يُعرض في نشرة الثامنة مساءً، مع تعليق مثقل بالفرح المفتعل، انشقاق قيادي حوثي كبير، والشرعية ترحب به كأحد أبطال الجمهورية، وكأن الأبطال يصنعون من الورق، أو يولدون من بيانات صحفية.


يبدو أننا نعيش مسرحية عبثية جديدة من إنتاج الشرعية، عنوانها، المنشق، وسيرويها الغد كواحدة من نُكات الحرب الطويلة، حين تصفق دولة كاملة لرجل واحد، لم يُحاسب، ولم يعتذر عن ماضيه بل غير المعسكر حين أدرك بأن الغرق سيناله.


ثمة ما يدعو للتأمل في كل مرة تُعلن فيها الشرعية عن انشقاق قيادي حوثي من صفوف الميليشيا الحوثية، وكأن الخبر بحد ذاته كفيل بإعادة التوازن المفقود في مشهد الحرب الطويلة، تتكرر البيانات وتتزاحم الصور، ويُقدم المنشق الجديد كدليل على أن المعركة تميل لصالح الشرعية، بينما الواقع يشي بعكس ذلك تماماً، هذه الظاهرة ليست مجرد حدث إعلامي، بقدر ما تكشف عن أزمة أعمق، نفسية وسياسية، تعيشها الشرعية منذ سنوات.


فالشرعية، التي تجاوز عمر أزمتها خمسة عشر عاماً تبدو وكأنها تعيش حالة عطش للنصر، حتى وإن كان هذا النصر رمزياً أو مصطنعاً، كل انشقاق صغير يُقدم كفتح عظيم، وكل صورة تُروج وكأنها تعويض عن إخفاقات متراكمة في الميدان، في جوهر الأمر، ما تقوم به الشرعية ليس احتفاء بالعودة إلى صف الوطن، بل محاولة لإقناع الداخل والخارج بأنها ما زالت حاضرة، قادرة على جذب الخصوم إلى معسكرها، وإن لم تستطع حسم المعركة على الأرض.


لكن الخطورة لا تكمن في الانشقاق ذاته، إنما في الفكرة التي يُراد لها أن تُجسد، إذ تسعى الشرعية من خلال هذه الأخبار إلى ترسيخ تصور في الوعي الجمعي مفاده أن كل من ينشق عن الحوثيين يُعتبر بطلاً جمهورياً، يُطهر ماضيه بمجرد عبوره للضفة الأخرى، وهذا من حيث لا تدري يفتح الباب أمام خلط خطير بين التوبة والمكافأة، وبين عودة المخدوعين ومكافأة المجرمين.


نحن بلا شك مع كل عودة صادقة لكل من أُغري أو أُجبر على القتال مع الميليشيا الحوثية الإرهابية، ومع كل خطوة تقرب أبناء الوطن من بعضهم، لكن هذه العودة لا يجب أن تتحول إلى وسيلة تلميع أو صناعة أبطال من ماضي ملوث بالانتهاكات، فالوطن لا يُبنى بالصفح الانتقائي، ولا بالاحتفاء المؤقت، بل بالعدالة التي تضع كل شيء في مكانه الصحيح.


إن ما تحتاجه الشرعية اليوم ليس خبراً جديداً عن منشق آخر، إنما لمراجعة جادة لبنيتها السياسية والعسكرية، وإدراك أن المعركة ليست في الإعلام، بل في الميدان، وأن النصر الحقيقي لا يُقاس بعدد الصور المنشورة، بل بمدى استعادة الدولة لهيبتها ومؤسساتها.


قد يبدو المشهد في ظاهره بسيطاً و مألوفاً، انشقاق هنا، وتصفيق هناك، وبيان يملأ الشاشات بألفاظ منتقاة بعناية، غير أن ما يجري في العمق أشبه بمحاولة إحياء مريض عبر جرعة مؤقتة من الأوكسجين، انتعاش لا يدوم، ونبض مصطنع يعيد الوهم إلى الحياة، ولذا إن الشرعية في لحظات كهذه لا تتحدث بلسان الدولة، هي تتحدث بلسان الحاجة إلى البقاء، وإلى إثبات أن ثمة ما يتحرك ولو في الفراغ تحوله السياسة إلى ما يشبه التمثيل الاضطراري، تُرفع فيه الشعارات لطمأنة الذات المتعبة من ثقل الفشل.


إن تكرار مشهد الاحتفاء بالمنشقين لا يعكس قوة الشرعية، بقدر ما يكشف هشاشتها العميقة في إدارة المعركة واستثمار الفرص، فالأنظمة الواثقة لا تبني مجدها على أخبار صغيرة، ولا تقتات من رموز طارئة، وتخلق واقعاً قادراً على توليد النصر من ذاته، أما الشرعية وقد أرهقها الزمن واستنزفتها التناقضات، فقد وجدت في كل انشقاق متنفساً مؤقتاً يخفف وطأة العجز السياسي والعسكري الذي يطاردها منذ أعوام.


في العمق نحن أمام حالة نفسية جماعية تعيشها السلطة، حالة من البحث عن رمز يُرمم الصورة المهشمة أمام جمهور متعب فقد ثقته بكل الأطراف، فالمنشقّ الجديد ليس أكثر من مرآة تلمع نفسها بها السلطة، ثم تنساها بعد أيام لتبحث عن مرآة أخرى، وهكذا يتحول الفعل السياسي إلى حركة استعراضية بلا مضمون، بينما تبقى جذور الأزمة كما هي، غياب المشروع الوطني، وافتقاد القيادة القادرة على إنتاج قرار سيادي حقيقي.


وربما آن الأوان لأن تدرك الشرعية أن المعارك لا تُربح بالتصفيق، وأن الوطن لا يُرمم بصور متكررة على الشاشات، إنما بإرادة حقيقية تُعيد صياغة مفهوم الدولة والولاء والانتماء، فاليمن يحتاج إلى مشروع جامع يُنهي زمن التشتت، ويعيد للشرعية معناها قبل أن يفقدها الزمن شرعيتها.