آخر تحديث :الجمعة-10 أكتوبر 2025-04:06م

خَارِطةُ الألَمِ... حِينَ تَعبَثُ السياسةُ بِذاكرةِ الأمكنةِ

الخميس - 09 أكتوبر 2025 - الساعة 03:39 م
د. مجيب الرحمن الوصابي

بقلم: د. مجيب الرحمن الوصابي
- ارشيف الكاتب



مجيب الرحمن الوصابي


في ظلّ إعلانِ المجلسِ الانتقالي دراسة ضم ّمحافظات شمالية إلى مشروعه الوطني، تطفو على السطح أسئلة وجودية عن معنى الهويّة وعلاقة القرار السياسي بمصير المجتمعات. كيف يمكن لقرار/ فكرة أن يغيّر هويّة مكان تشكّل عبر قرون؟ وكيف تتحول المدن من حاضنة للتاريخ إلى نقاط على خريطة سياسية؟


والحدودُ السياسيّة تشبهُ الوشم على جلد الأرض، تحمل ألماً ولا تعبر عن هويَة حقيقيَة؛ فالشعب الذي تشارك اللغة والتاريخ والفرح والحزن، يُدعى اليوم إلى انقسام مُصطنع! كأنَّ السياسةَ تتناسى أن الهوية لا تورّث بقرار، بل تخلق بتواصل القلوب وتمازج الأرواح.


إن إعلان التشاور والتفكير بالضم، بغض النظر عن مبرراته السياسية، يمَسّ صميم الذاكرة الجمعية؛ فالمدن ليست مجرد أسماء على خريطة، بل هي وجه الوطن الذي عرفه الآباء والأجداد. كيف لتعز التي تغنى بها الشعراء، ومأرب التي تحدث عنها التاريخ، أن تخلع هويتها فجأة؟ ...


قد يقول قائل-ومعه حق -إن ضمَّ بعض المحافظاتِ الشماليةِ قد يكونُ الخطوةَ الأولى نحو وحدةٍ أعمق، وحدةٍ لا تلغي الخصوصياتِ بل تحتضنها، ولا تنكرُ الاختلافاتِ بل توفقُ بينها... إنها بدايةُ عودةِ اليمنِ إلى نفسه، جزءاً فجزءاً، كما يعودُ المسافرُ بعد غيابٍ طويل، حاملاً في حقائبه دروسَ السفرِ وعبرَ التيه.


وربّما هي لحظةُ مصالحةٍ بين الجغرافيا والتاريخ، بين حلمِ الآباءِ بوحدةٍ ترابية، وواقعِ الأبناءِ بتنوعٍ ثقافي. إنها فرصةٌ لبناءِ هويةٍ يمنيةٍ جديدة، قادرةٍ على احتواءِ تنوعها الغني، كالشجرةِ الوارفةِ التي تمتدُّ جذورها في كلِّ الاتجاهات، فتمتصُّ غذاءها من تربتها المتنوعةِ دون أن تفقدَ هويتها.


الخطرُ الحقيقيُّ ليس في تغييرِ الخرائط، بل في تحوّلِ الهويةِ من نافذةٍ نطلُّ منها على العالمِ إلى سجنٍ ضيقٍ نحبسُ أنفسنا فيه؛ أن يتحوّلَ التنوعُ الجميلُ إلى سببٍ للفرقة، والثراءُ الثقافيُ إلى ذريعةٍ للصراع.


لننظرْ إلى ما وراءَ الخرائطِ المصطنعة، فلعلنا نجدُ في عيونِ أهلِ الشمالِ والجنوبِ ذاتَ البراءة، وفي قلوبهم ذاتَ الألم، وعلى ألسنتهم ذاتَ الحكايات. فالأرضُ لا تعرفُ إلا أبناءها، والهويةُ الحقيقيةُ هي التي تبنى على الحبِّ والاحترام لا على القسر.