في عام 1965، وجدت سنغافورة نفسها وحيدة بعد الانفصال عن الاتحاد الماليزي. دولة صغيرة بلا موارد، محاطة بالبحر من كل الجهات، ومثقلة بالخوف من الجوع والانهيار. وقف لي كوان يو، رئيس وزرائها، أمام الكاميرات باكيًا، لا لأنه فقد السلطة، بل لأنه أدرك حجم المسؤولية التي أُلقيت على كتفيه. لم يعد الناس بحاجة إلى خطب، بل إلى من يشعل الكهرباء، ويؤمن الماء، ويرفع الأجور، ويجعل من الأمل خبزًا يُؤكل لا شعارًا يُقال. في سنواتٍ قليلة، صارت سنغافورة درسًا في الانضباط والصدق والعمل، فالمواطن هناك لم يسمع عن الإنجاز، بل رآه يمشي في الشوارع ويضيء النوافذ ويُربّي في قلبه الإيمان بأن الدولة يمكن أن تكون بيتًا لا متجراً للسلطة.
وفي المقابل، يُطل علينا المشهد الجنوبي اليوم بصورة تكاد تكون نقيض تلك الحكاية. بعد عشر سنوات من الوعود المكررة، يقف عيدروس الزبيدي على رأس كيانٍ يتغذى على الشعارات أكثر مما يعيش على العمل، تحيط به فرق إعلامية تُطبل وتُغني وتُرسم له صورة البطل المخلّص الذي لم يخلّص شيئًا. في كل لقاء يظهر بوجهٍ جديد، يتحدث عن إنجازات لا تُرى، وعن مشاريع لا وجود لها إلا في صفحات الإعلام الموالي، بينما الجنوب يغرق في ظلام الكهرباء، والناس تئن من الجوع، والرواتب معلّقة بين وعودٍ رسمية وصمتٍ ثقيل.
منذ سنوات، يعيش الرجل في الخارج متنقلاً بين العواصم، في رفاهيةٍ لا تخفى، ترافقه عائلته وحاشيته، بينما شعبه يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. في عدن والمكلا وأبين، يقف المواطن ساعاتٍ تحت الشمس في طوابير للحصول على الوقود أو الماء، بينما الماكينات الإعلامية تواصل بث الأناشيد عن “القيادة الحكيمة” و“المشروع الوطني العظيم”. حتى الكهرباء التي وعدوا بإصلاحها تحولت إلى نكتةٍ يومية، والرواتب التي قيل إنها ستنتظم تُستبدل ببيانات “قيد المعالجة”.
في سنغافورة، كان القائد يبدأ نهاره بين العمال والمهندسين، يسأل عن أسباب تأخر البناء، ويتفقد المدارس والمصانع. أما هنا، فيكفي أن يُطلّ الزعيم من وراء شاشةٍ أو بيانٍ رسمي ليُقال إن التاريخ يعيد نفسه، مع أن الواقع لا يشبه إلا نفسه: فسادٌ متجذّر، بطالةٌ تتسع، وخدماتٌ تتآكل أمام صمتٍ من يملك القرار. حتى حين تتسرب تقارير الفساد أخرها إيقاف سالم ثابت عن العمل لأنه أوقف فسادهم أو عن فساد الأراضي المستفحلة، لم يتحرك ساكن، لأن فريق المديح جاهزٌ لطمس كل تساؤلٍ وإغراق الناس في دوامة “الإنجازات الموعودة”.
تتكرر المأساة ذاتها كل مرة: الزعيم الذي يتحدث باسم الشعب دون أن يعيش معه، الذي يوزع الوعود ولا يدفع الثمن، والذي يجد في الأزمات وسيلةً للبقاء لا سببًا للرحيل. وإن كان لي كوان يو قد بكى لأنه شعر بثقل المسؤولية، فإن كثيرًا من زعماء اليوم يبتسمون لأن المديح أنساهم ثقلها. هناك، كانت القيادةُ خادمةً للوطن، وهنا، صار الوطن خادمًا لصورة القائد.
ما يؤلم في القصة ليس الرجل وحده، بل أولئك الذين يصنعون حوله جدارًا من الكلام يمنع الضوء من الوصول. من يرفعون صوره في الشوارع بينما المرضى بلا دواء، والموظفون بلا راتب، والطلاب بلا مدارس. من يكتبون مقالاتٍ عن “النهضة الجنوبية” بينما الميناء متعثر، والمياه ملوثة، والمستقبل غامض. لقد صار المديح مهنةً، وصناعةَ وهمٍ يتقنها من لا يملك سوى الكلمات.
الفرق بين سنغافورة وعدن ليس في الموارد، بل في الصدق. سنغافورة لم تملك نفطًا ولا ذهبًا، لكنها امتلكت رجلاً صادقًا مع نفسه ومع شعبه. أما نحن فغرقنا في بحرٍ من الأقوال، تُبحر فيه سفنُ الوعود ولا تصل إلى أي شاطئ. الوطن الذي يُحكم من الفنادق لا يُبنى، والقائد الذي يعيش بعيدًا عن جوع الناس لا يسمع أنينهم. إن الشعوب لا تحتاج إلى أبطالٍ في الصور، بل إلى رجالٍ يقفون في الميدان، إلى من يجعل من الحكم خدمةً لا غنيمة، ومن القيادة مسؤوليةً لا وسيلة للتمجيد.
فيا من تتغنون بالإنجازات، أنصتوا لليل الجنوب المظلم، لقلوب الأمهات التي تتقلب بين الرجاء والخذلان، لأصوات الأطفال التي تسأل عن معنى الوطن حين لا يجدون فيه كهرباءً ولا ماءً ولا رغيفًا. هناك فقط ستفهمون أن المجد لا يُصنع بالكلام، وأن الأوطان لا تعيش بالمهرجانات، بل بالعمل، بالصدق، وبأن يعود القائد من منفاه ليعيش وجع الناس لا رفاهه. فالتاريخ لا يرحم من بنى مجده على الرماد، ولا يكتب إلا لمن جعل من الصدق دستورًا، ومن الوطن بيتًا لا مسرحًا للتصفيق.