لم يعد اليمنيون بحاجة إلى كثير من التحليل ليعرفوا أن كل ما سمعوه منذ 2015 لم يكن سوى وعودٍ زائفة وشعاراتٍ فارغة باعها الجميع للجميع، من جماعة الحوثي إلى الشرعية إلى القوى المحلية في الجنوب. فبعد ١٠ سنوات من الحرب، لم يتحقق شيء سوى تراكم الفقر والخوف وانعدام الرواتب وانهيار الخدمات، حتى باتت المدن اليمنية نسخة متطابقة من البؤس؛ صنعاء كعدن، وتعز كالمكلا، والناس في كل مكان تلعن ذات الخطاب السياسي الذي وعدها بالنجاة فقادها إلى الجحيم.
منذ اندلاع الحرب كان لكل طرفٍ روايته التي روّجها للناس كأنها الحقيقة المطلقة. الحوثيون قالوا إنهم يقاتلون “العدوان الأمريكي السعودي” لتحرير اليمن من الوصاية الخارجية، بينما كانوا في الواقع يرسخون سلطةً مذهبية مغلقة حول سلالة واحدة لا ترى في اليمنيين سوى رعايا خاضعين. الشرعية من جهتها قالت إنها تقاتل لاستعادة الدولة، لكنها لم تُبنِ دولة بل أقامت سلطة منفية تقتات على المنح والتحويلات وتغرق في فسادٍ ممنهجٍ جعلها تفقد ثقة الشارع. أما المجلس الانتقالي الجنوبي، فقد وعد الناس باستعادة الدولة الجنوبية، لكنه لم يقدّم نموذجًا لحكم غير صالح.
صنعاء.. وعود الثورة المزعومة
منذ سيطرتها على العاصمة صنعاء عام 2014، رفعت جماعة الحوثي شعارات “الحرية والاستقلال والسيادة” وملأت الجدران بعبارات “الموت لأمريكا” و“النصر للإسلام”. لكنها في الواقع أقامت أسوأ نظامٍ أمنيٍّ عرفته البلاد منذ قيام الجمهورية. صودرت الحريات، وأُغلقت الصحف، واعتُقل الصحفيون، وفرضت الجماعة جباياتٍ مالية لا طاقة للمواطن بها تحت مسميات دعم الجبهات والمجهود الحربي. انهار الاقتصاد، توقفت المرتبات، وارتفعت الأسعار حتى صار المواطن في صنعاء يشتري الخبز بالقطعة ويحسب الكيلوغرام من الأرز بالملّيم.
تحوّلت صنعاء إلى سجنٍ كبيرٍ يعيش فيه الناس بين الخوف والجوع. يراقبهم مشرفٌ في كل شارع، ويُحاسبهم خطيبٌ في كل مسجد، ويُجبرهم الإعلام على ترديد شعارٍ يزداد خواءً مع كل وجبةٍ ناقصةٍ على موائدهم. إنها سلطة شعارات لا دولة فيها، وإيمانها الوحيد أن الشعب يجب أن يجوع ليبقى مطيعاً.
تعز.. حصار الداخل والخارج
أما تعز، مدينة الثورة والجمهورية والعلم، فقد تحوّلت إلى مدينةٍ محاصَرة منذ سنوات. الحوثي يطوّقها من الخارج، والجماعات المسلحة الموالية للأحزاب تتنازعها من الداخل. كل فصيلٍ فيها يرفع شعار “الدولة المدنية” و“الديمقراطية”، بينما يمارس أبشع صنوف الفوضى والانقسام.
المواطن هناك لا يجد دولة تحميه ولا حزباً يخدمه. الطرق مقطوعة، والمستشفيات بلا رواتب، والتعليم مهدد بالانهيار. الشعار الذي رفعه الجميع عن “تحرير تعز” أصبح تجارة موسمية لجمع التبرعات أو حشد المقاتلين، بينما بقيت المدينة رهينة الشعارات أكثر من رصاص البنادق.
عدن.. العاصمة المؤقتة التي لم تشتغل فيها المولدات
في العاصمة المؤقتة عدن، المدينة التي علّق اليمنيون آمالهم عليها بعد طرد الحوثيين، لم يتحقق شيء مما وُعدوا به. فبدل أن تتحول إلى نموذج للاستقرار والإدارة الرشيدة، غرقت في الصراعات الإدارية والمناطقية، وتناوبت على حكمها كياناتٌ مختلفة كلها تتحدث باسم “القضية الجنوبية”، لكن أياً منها لم ينجح في توفير أبسط مقومات الحياة.
الكهرباء تنطفئ بالساعات، المياه مقطوعة، الرواتب متأخرة لأشهر، والنفايات تملأ الشوارع. المواطن العدني لا يهتم اليوم بمن يحكمه بقدر ما يريد أن يرى ضوءاً في بيته ليلاً. كل الشعارات عن “التمكين الجنوبي” و“الاستقلال القادم” ذابت تحت حرارة مولدٍ متوقف وطفلٍ يبكي عطشاً.
المدينة التي كانت يوماً منارة اليمن وبوابة البحر العربي أصبحت اليوم محاصَرةً بعجزها، ومثقلةً بخيبات الوعود. لم تعد عدن تشبه سوى نفسها المنهكة؛ مدينةٌ بلا خدمات، بلا مؤسسات، وبلا دولة، تتنازعها ولاءات ضيقة لا ترى في المواطن سوى وسيلة لتبرير وجودها.
حضرموت.. الحلم الذي يضيع في الرمال
في أقصى الشرق، ظنّ الناس أن حضرموت ستكون الاستثناء؛ واحة الاستقرار وسط العاصفة. لكن السنوات الأخيرة أثبتت أن هذه المحافظة أيضاً ليست بعيدة عن لعنة الشعارات. فكل القوى السياسية تتغنّى بحب حضرموت وتعلن أنها تريد تمكين أبنائها، بينما الواقع يكشف العكس: صراعٌ على النفط، وتنازعٌ على المناصب، وانقسامٌ في الولاءات بين معسكراتٍ متنافسة.
تحوّلت حضرموت إلى ورقة تفاوض في أيدي المتصارعين، تُستخدم تارة لتهديد الحكومة، وتارةً أخرى لإغراء التحالف أو ابتزاز الخصوم. أما المواطن الحضرمي، الذي يعيش على رواتب بالكاد تكفي أسبوعاً، فيرى أن “الحكم الذاتي” و“المجلس الحضرمي” و“الهوية الخاصة” ليست سوى عناوين رنانة لا علاقة لها بماء الشرب المنقطع أو الطرق المتهالكة.
الشرعية.. شعار الدولة الغائبة
الشرعية التي وُلدت من رحم الحرب، رفعت شعار “استعادة الدولة”، لكنها لم تستعد سوى مقاعد في الفنادق. عشر سنوات من المؤتمرات والبيانات والاجتماعات لم تُنتج سوى بيروقراطية فاسدة، يتقاضى مسؤولوها رواتب بالدولار، بينما الجنود والموظفون يمضون أشهرًا دون راتبٍ واحدٍ بالريال.
لم تُبنِ الشرعية مؤسساتٍ حقيقية، ولم تؤمّن موارد مستقلة، ولم تقدم نموذجاً أخلاقياً أو سياسياً مختلفاً. بل أصبحت شبكة مصالح معقدة بين مسؤولين ونافذين يعيشون على حساب شعبٍ يزداد فقرًا كل يوم.
أصبحت الحكومة عنواناً للغربة داخل الوطن؛ وزراؤها يزورون المحافظات كما يزور السياح المتاحف، وقراراتها تصدر بلا أثر. كل بيانٍ عن “تحسين الخدمات” يتحول إلى مزحة، وكل تصريحٍ عن “تحسين سعر الصرف” يصبح سبباً جديداً للسخرية.
الناس.. الخاسر الدائم
في النهاية، لم يكسب أحد شيئًا سوى الألم. المواطن في اليمن اليوم لا يثق بأي طرف، ولا يصدق أي شعار. يعيش على أملٍ يتآكل، ويكتفي بالصبر على واقعٍ لم يعد قابلاً للتجميل.
في كل مدينةٍ تسمع الشعارات نفسها: في صنعاء يقولون “الصمود”، في عدن “التمكين”، في تعز “التحرير”، في حضرموت “الهوية”، وفي كل مكانٍ النتيجة واحدة: ظلام، فقر، خوف، وغياب رواتب.
الناس اليوم باتوا يعرفون أن الحرب لم تكن سوى سباقٍ على الغنيمة، وأن الشعارات كانت سلعة في سوق السياسة تُباع وتُشترى حسب المزاج والمصلحة. لا مشروع وطني، لا خطة اقتصادية، لا عدالة اجتماعية. كل شيء يُدار بمنطق الولاء والصفقة، بينما تتآكل الدولة كجسدٍ بلا روح.
مدن تتشابه في الوجع
أينما ذهبت في اليمن اليوم ستجد المشهد واحداً.
في صنعاء: الناس يقفون في طوابير الغاز والخبز.
في عدن: يطاردون ساعة كهرباء وسط حرٍّ قاتل.
في تعز: يسمعون صوت القصف قبل الفجر.
في المكلا: ينتظرون رواتبهم التي لا تصل.
وفي مارب: يخافون من مستقبلٍ مجهولٍ مع نزوحٍ لا ينتهي.
كل المدن باتت تتشابه، وكل الوجوه مرهقة. لم تعد هناك خطوط فاصلة بين “المحرر” و“المحتل”، بين “الشرعية” و“الانقلاب”، بين “الشمال” و“الجنوب”. صار الجميع في المعاناة سواء، والفارق الوحيد هو من يملك مولداً صغيراً يضيء ليله، ومن ينتظر الفجر على ضوء شمعة.
إفلاس سياسي شامل
السنوات التسع الماضية أثبتت أن الأزمة اليمنية لم تكن أزمة موارد، بل أزمة ضمير سياسي. فكل طرفٍ أراد أن يصنع دولة على مقاسه، وأن يخلق ولاءً على أساسٍ مناطقي أو مذهبي، حتى ضاع الوطن بين خرائط متكسّرة.
لم يعد هناك من يجرؤ على الاعتراف بالفشل، لأن الجميع يقتات على استمرار الأزمة.
من دون حربٍ لا وجود لهم، ومن دون معاناة الناس لا معنى لشعاراتهم. ولذلك يستمرون في بيع الوهم كل صباح: الحوثي يتحدث عن النصر، والشرعية عن الدولة، والانتقالي عن الاستقلال، بينما لا أحد يملك خطةً لإضاءة مصباحٍ في بيتٍ يمنيٍّ واحد.
نهاية الشعارات
اليمن اليوم لا يحتاج إلى مزيدٍ من الخطب أو البيانات أو اللجان. يحتاج إلى شجاعةٍ وطنيةٍ تعترف بأن كل المشاريع القائمة فشلت، وأن المواطن هو وحده من يدفع الثمن.
فلا دولة الحوثي نجحت في بناء نظامٍ عادل، ولا حكومة الشرعية استعادت مؤسساتها، ولا الانتقالي أنقذ الجنوب من الانهيار. الجميع باعوا الشعارات، لكن أحداً لم يشترِ وجع الناس.
ولذلك، فإن أول خطوة نحو الخلاص هي أن يتوقف الجميع عن الكذب على الشعب. أن تُقال الحقيقة كما هي: البلد مدمَّر، الناس جائعون، والدولة غائبة، والحل لا يكون بتكرار الشعارات بل بإعادة بناء الإنسان اليمني، والبدء من تحت، من القرية والمدرسة والمستشفى، لا من المنابر والسلاح.
لقد باعوا الوطن قطعة قطعة باسم القضية، وباعوا القضايا باسم الوطن، وباعوا الأمل باسم النصر. لكن الشعب – مهما جاع وانهار – لم يعد يشتري هذه البضاعة الفاسدة. فكل الشعارات التي رُفعت منذ 2015 سقطت في امتحان الواقع، وبقيت الحقيقة الوحيدة أن اليمنيين يعيشون اليوم بلا دولة، بلا رواتب، وبلا مستقبل واضح، يتقاسمون الخوف كما يتقاسمون الخبز القليل.
نُشر في القسم السياسي – صحيفة عدن الغد