شهد اليمن خلال العقود الأخيرة تحولات عميقة جعلته نموذجًا صارخًا للدولة الفاشلة في العالم العربي. فمنذ اندلاع الحرب الأهلية في عام 2014، وانهيار مؤسسات الدولة، برزت قوى غير حكومية من الميليشيات المحلية، والجماعات الإسلامية المتطرفة، والحركات الانفصالية لتملأ الفراغ الذي خلفه ضعف السلطة المركزية. تعد الحالة اليمنية اليوم مثالًا معقدًا لتفاعل الفساد، والولاءات القبلية، والتدخلات الخارجية، والانقسامات السياسية، في إنتاج بيئة خصبة لصعود جماعات وميليشيات مثل الحوثيين، وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، والمجلس الانتقالي الجنوبي، إلى جانب عشرات الميليشيات المحلية التي تتوزع الولاءات فيها بين أطراف داخلية وإقليمية. يشير مفهوم “الدولة الفاشلة” إلى كيان سياسي فقد قدرته على بسط سلطته على كامل أراضيه، وضمان الأمن، وتقديم الخدمات الأساسية، والحفاظ على احتكار استخدام القوة. وفي الحالة اليمنية، يمكن تتبع مؤشرات الفشل منذ عقود، لكن جذورها تعمقت بعد توحيد الشمال والجنوب عام 1990، حين لم تستطع الدولة الجديدة بناء مؤسسات عادلة أو نظام حكم متوازن. أدى انتشار الفساد في مؤسسات الدولة إلى تآكل الثقة العامة في الحكومة المركزية. فالثروات النفطية المحدودة التي كان من الممكن أن تسهم في التنمية تحولت إلى مصدر إثراء للنخب السياسية والعسكرية، ما عمّق الفجوة بين المواطن والدولة. كما أن نظام المحاصصة القبلية والسياسية جعل الولاء للحزب أو القبيلة يتفوق على الولاء للدولة، وهو ما أفقد الحكومة القدرة على فرض سياساتها أو احتكار العنف الشرعي. وكذلك انهارت مؤسسات الدولة تدريجيًا مع تفشي الفساد وضعف الكفاءات الإدارية، ما ترك فراغًا في قطاعات الأمن، والاقتصاد، والتعليم، والصحة. في مثل هذه الظروف، تبدأ القوى غير الحكومية بالظهور لتقديم الخدمات أو لفرض النظام بالقوة، مما يجعلها بديلًا فعليًا عن الدولة في نظر المواطنين. ومن جانب آخر نشأت حركة أنصار الله (الحوثيين) في محافظة صعدة شمالي اليمن في التسعينيات، كحركة زيدية ذات طابع ديني وثقافي، هدفت في بدايتها إلى مقاومة ما اعتبرته “غزوًا ثقافيًا” من التيارات السلفية المدعومة من السعودية. لكن مع مرور الوقت، ومع تزايد ضعف الدولة المركزية، تحولت الحركة إلى قوة عسكرية منظمة. ومع انهيار مؤسسات الدولة بعد عام 2011، واحتدام الصراعات بين القوى السياسية عقب ثورة الشباب، استغل الحوثيون الفراغ الأمني للتمدد عسكريًا من صعدة إلى عمران ثم إلى العاصمة صنعاء في 2014. لم يكن هذا الصعود ممكنًا لولا ضعف الجيش اليمني المنقسم ولاءاته بين الرئيس السابق علي عبد الله صالح وخصومه. وأيضاً ساهم الدعم الإيراني السياسي والعسكري والإعلامي في تعزيز قدرات الحوثيين، ومنحهم القدرة على مواجهة التحالف العربي. وبمرور الوقت، فرض الحوثيون أنفسهم كسلطة أمر واقع تدير مناطق واسعة من شمال اليمن، تمتلك جيشًا واقتصادًا موازٍ للدولة الرسمية. وكذلك أيضاً استفاد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من حالة الانهيار الأمني لتوسيع نفوذه في المناطق النائية والفقيرة، خصوصًا في محافظات أبين، وشبوة، والبيضاء. فبينما انشغلت الحكومة اليمنية والتحالف العربي بالحرب ضد الحوثيين، استغل التنظيم هذا التشتت لفرض نفسه كقوة محلية توفر الأمن والخدمات في بعض المناطق لفترات مؤقتة. خلافًا للصورة النمطية للتنظيمات الجهادية، أظهر تنظيم القاعدة في اليمن قدرة على “التكيّف المحلي”، إذ حاول تقديم نفسه كسلطة عادلة تحكم بالشريعة وتوفر الأمن. وقد أكسبه ذلك دعمًا محدودًا في بعض المجتمعات القبلية التي فقدت الثقة بالدولة. رغم الضربات الجوية الأميركية والعمليات العسكرية، ظل التنظيم قادرًا على إعادة تجميع صفوفه بفضل طبيعة التضاريس، وضعف التنسيق بين القوى المتصارعة، وغياب مؤسسات الدولة الفاعلة. وفي جنوب اليمن يشكل المجلس الانتقالي الجنوبي أبرز تجسيد للحركة الانفصالية في جنوب اليمن، التي لم تتقبل يومًا نتائج وحدة عام 1990، خاصة بعد حرب 1994 التي كرسّت هيمنة الشمال على الجنوب. ومع انهيار الدولة، وجد الجنوبيون فرصة لإعادة طرح قضيتهم كخيار واقعي. حصل المجلس الانتقالي على دعم عسكري وسياسي من دولة الإمارات، ما مكنه من السيطرة على عدن وعدة محافظات جنوبية.
ومع وجود حكومة معترف بها دوليًا ضعيفة ومقيمة في الخارج، أصبح المجلس سلطة موازية تمتلك جيشًا وشرطة ومؤسسات محلية. أدى صعود الانفصاليين إلى تعميق الانقسام الجغرافي والسياسي في اليمن، حيث باتت البلاد مقسّمة فعليًا بين سلطات متعددة الحوثيون في الشمال، الحكومة المعترف بها في مناطق محدودة، والمجلس الانتقالي في الجنوب. مع استمرار الحرب وغياب سلطة مركزية فاعلة، ظهرت عشرات الميليشيات المحلية ذات الولاءات المتعددة بعضها قبلي، وبعضها طائفي، وبعضها تابع لأمراء حرب أو لقوى إقليمية. هذه الجماعات تملأ الفراغ الأمني في مناطقها، لكنها غالبًا ما تتسبب في مزيد من الفوضى، إذ يتنافس كل منها على النفوذ والموارد. تحولت الحرب إلى مصدر رزق، إذ استفادت الميليشيات من اقتصاد السوق السوداء، وعمليات التهريب، ونهب المساعدات الإنسانية، وجباية الضرائب. وبذلك أصبحت الحرب بالنسبة لكثير منها وسيلة للبقاء، لا مشروعًا لتحقيق السلام. بوجود سلطات متعددة متنازعة، تراجعت فكرة “الدولة الواحدة” في الوعي الشعبي. بات المواطن يرى أن الأمن والخدمات تأتي من الجماعة الأقرب إليه، لا من حكومة مركزية بعيدة، ما يعزز منطق الولاء المناطقي أو الطائفي بدل الولاء الوطني. لا يمكن فهم صعود القوى غير الحكومية دون الإشارة إلى التدخلات الإقليمية والدولية. فالحرب في اليمن لم تعد صراعًا داخليًا فحسب، بل أصبحت ساحة لتصفية الحسابات بين إيران وبين أطراف إقليمية أخرى. إيران تدعم الحوثيين لتعزيز نفوذها في شبه الجزيرة العربية. دول الخليج تدعم أطرافًا مختلفة داخل المعسكر المناهض للحوثيين، ما خلق تضاربًا في الأهداف. والقوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تركز على محاربة الإرهاب أكثر من دعم بناء الدولة. نتيجة لذلك، أصبح اليمن مسرحًا لتوازنات القوى بدل أن يكون دولة ذات سيادة قادرة على تقرير مصيرها. ختاماً وفي ظل استمرار ضعف الحكومة اليمنية وتعدد القوى المسلحة، يبقى السؤال الجوهري من يملأ الفراغ ؟
الجواب المعقد هو أن هذا الفراغ لا يُملأ بكيان واحد، بل بعدة كيانات متصارعة تتقاسم السيطرة وتغذي الفوضى.
فالحوثيون يسيطرون على الشمال باسم “المقاومة”، والمجلس الانتقالي يدير الجنوب باسم “القضية الجنوبية”، والقاعدة تتسلل عبر الهامش، بينما تترنح الحكومة الشرعية في الخارج. لكن الثابت أن غياب الدولة الفاعلة هو السبب والنتيجة في آنٍ واحد. فكلما ضعفت الدولة، تعززت سلطة الميليشيات، وكلما توسعت هذه الميليشيات، تقلصت فرص إعادة بناء الدولة. وما لم يتم بناء عقد اجتماعي جديد يعيد الثقة بين المواطن والدولة، ويقضي على الفساد والمحاصصة، فإن اليمن سيظل ساحة مفتوحة أمام قوى غير حكومية تملأ الفراغ إلى أجل غير مسمى.