عمر الحار .
اعتقال الاستاذ والكاتب الوطني العملاق فتحي بن لزرق ، ليس لحظة عابرة بل صفعة في وجه ماتبقى من أمل .
وما حدث اليوم للاستاذ فتحي ، ليس مجرد حادثة عابرة تطوى في أرشيف الأخبار ، بل علامة فارقة على الطريق الذي تمضي فيه المدينة بخطى حثيثة نحو الهاوية : حين يصبح الصدق تهمة ، والحقيقة جريمة ، والكلمة قيدًا ثقيلًا .
اليوم ، اعتُقل الكاتب الوطني الكبير فتحي بن لزرق في عدن لساعاتٍ فقط ، لكنها كانت كفيلة بكشف حجم الشرخ العميق في جدار القيم ، والقانون ، والحريات ، بل وفي روح المدينة ذاتها . فتحي ، الذي لم يكن مجرد صحفي ، بل مشروع ضمير وطني ، وامتداد أخلاقي وتاريخي لصوت عدن ، صار هدفا لمن ضاقوا ذرعا بالحقيقة ، وفزعوا من مواجهة الكلمة الصادقة.
بالأمس ، رحل وجه من وجوه عدن العتيقة في مشهدٍ عصيٍ على الوصف ، واليوم يهان وجهها الصحفي الحديث . و كأن المدينة ، التي كانت يومًا عاصمة للمدنية ، والثقافة ، والحرية ، قد دخلت نفقا من النفي الذاتي ، تفرّ من كل ما يشبهها ، وتطرد كل من يرفض دفنها في ركام النسيان .
عدن هجرت البحر ، لا لأن البحر تغير ، بل لأن المدينة خافت الغرق في طوفانه الموجع بالذكريات والخذلان. فاختارت أن تستكين إلى قلب "فتحي"، القلب الذي ظل مفتوحا لها على مصراعيه ، يدافع عنها كابن بارّ، ويكتب عنها كعاشق وفيّ ، ويواجه من أجلها بطش الطغيان بصلابة من لا يخاف إلا الله.
فهل كُتب على هذه المدينة أن تطرد كل من يحبها بصدق؟ أن تعتقل أقلامها ؟ وتصادر قلوبها ؟ وتشيطن ضمائرها؟
إن اعتقال فتحي ، وإن تم الإفراج عنه لاحقا ، لا يمكن النظر إليه خارج سياقه العام : سياق العدوان على الصحافة ، والحرية ، والكلمة الحرة ، وسياق الحرب على الأصوات المستقلة التي لا تساوم ، ولا تقايض ، ولا تصمت حين يعلو صوت الظلم .
فتحي بن لزرق ، هذا الاسم الذي تحوّل في وجدان الناس إلى أيقونة للحرف النبيل والموقف الصادق ، لم يكن يومًا كتابا عابرا ، بل صار امتدادًا عضويًا لهموم الناس ، ومعبرًا حقيقيًا عن معاناتهم . ومن سخريات القدر ، أن يُعتقل رجل بهذه المكانة في مدينة يفترض أنها تحتفي بالحريات ، لا تكسر أقلامها.
لكنهم أخطأوا التقدير . فما حدث اليوم ، أطلق العنان لموجة تضامن غير مسبوقة ، تجاوزت عدن إلى كل مدينة ، وقرية ، وزاوية في اليمن . وفي زمن الترندات الزائفة ، جاء ترند "فتحي" حقيقيا ، شعبيا ، تلقائيا ، عابرا للانتماءات ، ومزلزلًا لكل من اعتقد أن الناس قد تعبوا من الدفاع عن رموزهم الحقيقية.
معالي الأستاذ فتحي
حمدًا لله على سلامتكم ، ونجاتكم من غيّ هذا العبث العابر .
لقد انتصرت اليوم ليس على من أرادوا إذلال الكلمة فحسب ، بل على فكرة القمع ذاتها . خرجت أكثر صلابة ، وأكثر حضورًا ، و كأنك تقول لهم : "الكلمة لا تسجن ، ولا تنكسر ، ولا تموت ."
وعدن، التي طالما كانت مدينة الطيبين، ستظل مدينة لكم ولأمثالكم . مهما حاول العابثون تشويه وجهها ، أو تمزيق روحها.
فمثلكم لا يُعتقل.. بل يكتب عنه التاريخ .