مصطفى المخلافي
في صباح بدا عادياً كأي صباح في مدينة أنهكها التكرار، تكرار القتل والجريمة، سقطت إفتهان المشهري برصاصة لا تخطئ، في مدينة باتت لا تُخطئ القتل، مدينة تودع الأحياء يومياً دون حتى أن تفسد لحظة انشغال القاتل بكوب شاي، حيث أن وظيفة مدير صندوق النظافة والتحسين، وظيفة غير جذابة للبروباغندا الثورية ولا تدخل ضمن حقول الأدلجة، لكنها على بساطتها أصبحت هدفاً للقتلة المأجورين، ولم يكن اغتيال افتهان أكثر من جملة اعتراضية في نص مدينة فقدت منذ زمن قدرتها على صياغة معنى واضح للحياة.
جريمة اغتيال إفتهان لها دلالة مرعبة لما آلت إليه مدينة تعز، مدينة تحولت إلى ساحة قتل مجاني، حيث كل شيء مباح، ما دام يحظى بصمت شعبي وانحراف أخلاقي مؤسس، ومن ذا الذي يستطيع الآن إحصاء أسماء من سقطوا؟ أو حتى تحديد الجهة التي تملك الجرأة لتحمل المسؤولية؟ قطعاً لا أحد.
ثمة أمور كثيرة نجهلها في محافظة تعز، ألا وهي عدم قدرتنا على تشخيص المشكلة رغم وضوحها، فكل المعطيات مكشوفة، مدينة بيد ميليشيا الإخوان، وجهاز أمني تتجاذبه الولاءات، وقيم عامة تم تهشيمها لصالح خطاب المغالبة، ولذلك سقطت تعز في هوة يصعب الفكاك منها، سقطت حين ألفت شوارعها الدم وتعودت على هكذا مشاهد.
تُغتال إفتهان، ويتوارى القاتل بين ظلال الشرعية وبين أولئك الذين اختطفوا المدينة من روحها وأفرغوها من مضامينها، وحولوها إلى نسخة مكررة من مدن تنهشها الميليشيا واللصوصية.
إن تعز اليوم كائن جريح يتنفس تحت وطأة عصابات تتقاسمها كما تتقاسم الضباع جثة عتيقة، لا أحد يسأل، لماذا تُقتل امرأة؟ هل لأنها أرادت أن تنجز شيئاً نظيفاً في مدينة تتنفس العفن؟ لماذا يُستهدف صاحب موقف؟ لكن الجميع يصرون على أن ينكروا وجود القاتل بينهم.
إن إرث حمود المخلافي لا يتوقف عند حدود البندقية، إنما يتعداها إلى هندسة خوف جماعي وإخضاع صامت لكل من تبقى خارج خيمة الفوضى، الإرث الذي تركه لنا هو مدينة ترفض الشفاء، وتفضل أن تظل مشلولة على أن تنهض في وجه قاتلها.
هل من احتفاء هنا؟ لا تاريخ ولا مستقبل يستحق الاحتفاء إذا صمتنا عن دم كهذا، كل شعارات التنديد والغضب لا تكفي لغسل عار الصمت، وكل أيام سبتمبر لا تضيء عتمة كهذه، وما تحتاجه تعز اليوم هو إعتراف بأنناخسرنا المدينة.
كنا نخشى سقوط تعز بيد ميليشيا عبدالملك الحوثي، خوفاً من أن تُمسخ المدينة وتُجتث عقيدتها ووعيها التي لطالما قاومت به قبح فوضى فبراير، كنا نخشى أن تتحول تعز إلى نسخة كربونية من صنعاء، حيث يُصاغ القتل وفق طقوس مذهبية ويُمارس القمع كحق سماوي، لكن ما لم نكن نضعه في حساباتنا، أن المدينة ستسقط في دائرة القتل الداخلي دون أن يقترب الحوثي من بوابتها، وأن تتحول تعز إلى مسلخ داخلي تحت إدارة من ادعوا يوماً أنهم حماة لها، وأن يصبح القاتل هذه المرة محلياً، يتحدث بلهجتنا، ويسكن حاراتنا، ويقتلنا كواجب تنظيمي وليس كحالة عدوان حوثي.
وكأن تعز اليوم تسابق صنعاء على سلم الجريمة، وكأن القائمين على أمر المدينة أرادوا بعناد مشبوه أن يثبتوا شيئاً واحداً، نحن وميليشيا الحوثي في خندق واحد، قد نختلف في اللافتة، في الخطاب، في صياغة البيان، لكننا نتشابه حد التطابق في مخرجات الفعل، في استسهال الدم، وفي شيطنة كل ما هو خارج الطاعة.
لقد كنا نحصد بالأمس جرائم الساقط الحوثي، نعد أسماء الشهداء ونكتب بيانات الإدانة، واليوم نتحول مفجوعين إلى من يُحصي جرائم الإخوان، لا فرق بين قاتل يرفع شعار المسيرة، وآخر يرفع لافتة فبراير، ما دام المقتول هو المواطن نفسه، وما دام المشهد العام هو مشهد السطو على مدينة كانت ذات يوم سلطة للوعي وليس للرصاص.
أشعر بالخيبة، حين تنجو من قاتل لتسقط في يد قاتل آخر، وحين تهرب من جدار العقيدة المذهبية لتُصفع بجدار التنظيم العقائدي، وأن تكون كل المرات، جثة بلا شاهد عدل.
لا يمكن أن ننجو إذا لم نسمي القاتل باسمه، لا يمكن أن نبني مدينة في ظل حصانة للقتلة، ولا يمكن أن نتغنى بالنصر، فيما الشوارع تُكنس من أحلام أبنائها، بدلاً من نفاياتها.
تعز ليست بخير، ومن لا يرى هذا، إما قاتل آخر أو شريك في الجريمة.