آخر تحديث :Sat-13 Sep 2025-11:06AM

حين تكون المسؤولية الوزارية مبدأ صارم للأداء الوظيفي الراقي

الخميس - 11 سبتمبر 2025 - الساعة 05:50 م
د. محمد عبدالمجيد قباطي

بقلم: د. محمد عبدالمجيد قباطي
- ارشيف الكاتب


من أخصب ما يميز الديمقراطيات العريقة أنها لا ترى المنصب العام امتيازًا شخصيًا أو حصانة فوق القانون، بل تكليفًا ومسؤولية تُحاسَب على كل شاردة وواردة. هذا ما تجسده قاعدة المسؤولية الوزارية (Ministerial Responsibility) التي شكّلت عبر العقود معيارًا صارمًا للأداء الوظيفي الراقي، حيث يُلزم الوزير بتحمّل المسؤولية عن كل ما يقع في نطاق وزارته، حتى إن كان الخطأ من موظف تابع له أو هفوة شخصية بعيدة عن جوهر عمله.


بين الأسطورة والواقع

كثيرًا ما تتناقل وسائل التواصل الاجتماعي قصصًا تنسب إلى زمن "تشرشل"، مثل حكاية وزير العدل الذي أُجبر على الاعتذار لعامل نظافة ثم تنظيف الشوارع عقوبة له. هذه القصة لا أساس لها من الصحة، لكنها تجد رواجًا لِما تحمله من عظة حول العدالة والمساواة. ومع ذلك، تكشف الوقائع التاريخية الموثقة أن بريطانيا لم تكن بحاجة إلى مثل هذه القصص الرمزية لإثبات صرامة نظمها؛ فهي مليئة بأحداث حقيقية تُظهر أن أحدًا لا يعلو فوق المساءلة.


بروفومو: الفضيحة التي أسقطت حكومة

في عام 1963، قدّم وزير الحرب البريطاني "جون بروفومو" مثالاً صارخًا على هذا المبدأ. لم يُجبر على الاستقالة بسبب علاقة شخصية وحسب، بل لأنّه كذب أمام البرلمان. الكذب على الشعب و"مجلس العموم" كان في نظر الديمقراطية البريطانية خطيئة لا تُغتفر. الاستقالة جاءت فورية، وأدت لاحقًا إلى سقوط حكومة المحافظين بأكملها. لم يكن الأمر مجرد فضيحة شخصية، بل تطبيقًا عمليًا لمبدأ أن الثقة العامة أثمن من الكرسي الوزاري.


"تشرشل": "أتحمل الخطأ لا التضليل"

خلال الحرب العالمية الثانية، كان "ونستون تشرشل" معروفًا بصرامته مع وزرائه، إذ لم يتردد في توبيخ من قصّر في أداء مهامه، لكنه كان يردد دائمًا عبارته الشهيرة: "أستطيع أن أتحمل وزيرًا يخطئ، لكن لا أتحمل وزيرًا يضلل." كان يدرك أن إدارة الحرب تتطلب صدقًا وشفافية قبل أي إنجاز، لأن الأكاذيب تفتك بالمصداقية أكثر مما تفتك الغارات بالطائرات.


"أنجيلا راينر": المثال الأحدث

في سبتمبر 2025، قدّمت نائبة رئيس الوزراء البريطانية ووزيرة الإسكان، أنجيلا راينر، استقالتها بعد أن خلص التحقيق إلى أنها أخفقت في دفع ضريبة الدمغة المستحقة على عقار اشترته قبل سنوات. لم يكن الأمر جريمة بالمعنى القانوني، لكنه مسّ بميثاق الوزراء وقواعد النزاهة. أعلنت راينر تحمّلها الكامل للمسؤولية وغادرت المنصب طوعًا.

لم يتردد رئيس الوزراء كير ستارمر في قبول الاستقالة والمضيّ فورًا في إعادة تشكيل حكومته، حيث عُيّن ديفيد لامي نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للعدل، وتسلّمت إيفيت كوبر حقيبة الخارجية، فيما أصبحت شبانة محمود أول وزيرة داخلية مسلمة في تاريخ بريطانيا. هكذا تحوّلت أزمة استقالة إلى لحظة تجديد في بنية الحكومة دون اهتزاز مؤسسات الدولة.


استقالات أخرى: ثقافة لا استثناء

وفي السياق نفسه، قدّمت وزيرة الدولة للاستثمار "بوبي غوستافسون" استقالتها لأسباب شخصية. هذا يوضح أن ثقافة الاستقالة ليست مرتبطة بالفضائح فقط، بل تنبع من مبدأ أوسع: أن المنصب العام ليس ملكًا دائمًا، بل وظيفة مؤقتة يمكن أن يغادرها شاغلها متى اقتضت المسؤولية أو المصلحة العامة.


الدرس لنا: الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد

هذه النماذج الحية من بريطانيا لا تعنينا لمجرد الاستشهاد، بل لما تحمله من دروس عميقة لواقعنا العربي واليمني. فالمسؤولية الوزارية ليست ترفًا سياسيًا، بل ضمانة لبقاء النظام الدستوري قائمًا على الثقة والمساءلة. غياب هذه الثقافة عندنا جعل المنصب في كثير من الأحيان حصانة فوق القانون، وأفرغ مبدأ المحاسبة من مضمونه.

اليمن، على وجه الخصوص، أحوج ما يكون اليوم إلى صياغة عقد اجتماعي جديد، يعيد الاعتبار لمبدأي الشفافية والمساءلة، ويكرّس سيادة القانون لا سطوة الأشخاص. إن ترسيخ هذه المبادئ على المستويين الدستوري والقانوني هو الشرط الأول لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، ولإرساء نظام يضع المصلحة العامة فوق الحسابات الشخصية أو الفئوية.


الخلاصة: حين تعلو المسؤولية على السلطة

من "بروفومو" في الستينيات، إلى "تشرشل" في الأربعينيات، وصولًا إلى "أنجيلا راينر" في أيامنا، يتكرر الدرس ذاته:
- المسؤولية الوزارية ليست شعارًا بل ثقافة مؤسسية.

-الوزير ليس فوق القانون، بل خاضع لمساءلة الشعب وممثليه.

-الاستقالة ليست وصمة عار، بل مظهر من مظاهر احترام الذات العامة.

إنها ثقافة تجعل من المسؤولية أرفع من السلطة، ومن المنصب تكليفًا لا تشريفًا. وهي الثقافة التي نحتاج إلى أن نصوغها في عقد اجتماعي عادل، يضمن أن يكون الوزير أو المسؤول القيادي خادمًا للشعب لا سيدًا عليه.