آخر تحديث :الإثنين-15 سبتمبر 2025-09:13ص

الاقتصاد كسلاح سياسي: قراءة في بيان مجلس التعاون الخليجي بشأن اليمن

الإثنين - 01 سبتمبر 2025 - الساعة 10:26 م
طه بافضل

بقلم: طه بافضل
- ارشيف الكاتب


في عالم الأخبار، لا يكمن عمق الخبر في تفاصيله المعلنة، بل في ما يختبئ بين سطوره، وفي سياقه الذي يُفصح عن جوهر اللعبة السياسية. الخبر القادم من الخبر، حول دعوة مجلس التعاون الخليجي لدعم البنك المركزي بعدن، ليس مجرد بيان مالي، بل هو فصل جديد في مسرحية الصراع اليمني، أُديرت فيها السياسة والاقتصاد كوجهي عملة واحدة.


جوهر الخبر لا يكمن في "الشرطة المالية"، بل في مفتاح الكلمة التي اختارها البيان: "السلطة النقدية الشرعية الوحيدة". هذه الكلمة ليست وصفًا اقتصاديًا، بل هي إعلان سياسي بامتياز؛ إنها ترسيخ لمبدأ التفريق بين سلطة تكتسب شرعيتها من الاعتراف الدولي والإقليمي (حكومة عدن)، وأخرى تفرض نفسها بحكم الأمر الواقع على الأرض (سلطة صنعاء التابعة للحوثيين).


لذا، فالدعوة لدعم البنك المركزي بعدن، ليست مجرد ضخ أموال أو مساعدة فنية. إنها محاولة لإعادة بناء عمود فقري اقتصادي للسلطة الشرعية المبعثرة والمهترئة منذ عشر سنين، في مواجهة سلطة الأمر الواقع في الشمال التي تسيطر على المؤسسات الحيوية وعلى رأسها بنك مركزي موازٍ في صنعاء، وعلى الاتصالات، إنها رسالة واضحة بأن الصراع ليس فقط على الجغرافيا والسلاح، بل على الشرعية الاقتصادية والقدرة على إدارة شؤون الدولة، حتى لو كانت دولة مجزأة ومتضادة ومتناحرة.


فهم هذا البيان يتطلب الخروج من الإطار التقليدي للنظر إلى البنوك المركزية في اليمن، تحول البنك المركزي إلى جبهة حرب، منذ نقل مقره من صنعاء إلى عدن في عام 2016، انقسمت البلاد ليس فقط سياسيًا وعسكريًا، بل ماليًا أيضًا، كل سلطة أصبحت تطبع عملتها الخاصة، وتتحكم في مواردها، مما أدى إلى انهيار القيمة النقدية وارتفاع التضخم، ودفع بالمواطن اليمني إلى قاع الهاوية.


بيان مجلس التعاون الخليجي هو اعتراف صريح بأن المواجهة مع الحوثيين لا يمكن أن تقتصر على الجانب العسكري، بل يجب أن تشمل سلاحًا أكثر فتكًا؛ الحصار المالي، دعم البنك المركزي في عدن يهدف إلى تقوية موقعه ليصبح النقطة الوحيدة التي يمكن من خلالها التعاطي مع الخارج ماليًا، وربما ممارسة ضغط أكبر على السلطة في صنعاء التي تعتمد على تحصيل الضرائب وإيرادات أخرى لتمويل آلتها العسكرية.


ثمة مأزق للدور الإقليمي يكمن هذا المأزق في الفجوة بين الأهداف المعلنة والنتائج المحتملة، فبينما يهدف الدعم إلى توحيد السلطة النقدية، فإنه قد يرسخ الانقسام القائم. الدعم يمنح الشرعية لبنك في مدينة واحدة، بينما يعيش ملايين اليمنيين تحت سلطة أخرى! هذا التناقض قد يؤدي إلى مزيد من الانقسام الاقتصادي والاجتماعي، ويجعل من فكرة "الدولة" في اليمن مجرد ذكرى بعيدة المنال.


الخبر، في جوهره، ليس إلا إحدى مشاهد مسرحية "تفكيك الدولة" التي بدأت بعد عام 2011. مجلس التعاون الخليجي، الذي يحاول إعادة بناء مؤسسة الدولة في اليمن من خلال دعم إحدى أذرعها (البنك المركزي)، يجد نفسه في خضم صراع معقد لم يعد فيه طرف واحد يسيطر على كل خيوط اللعبة، إنها محاولة لفرض النظام في فوضى عارمة، لكنها قد لا تكون كافية لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.


في النهاية، هذا الخبر ليس عن البنك المركزي في عدن، بل عن الشرعية التي تحاول قوى إقليمية ودولية أن تحافظ عليها أو تفرضها وتقويها، وعن كيفية تحول الاقتصاد من أداة للتنمية إلى ميدان للمواجهة السياسية.