آخر تحديث :الإثنين-03 نوفمبر 2025-01:05م

في تشريح الذاكرة... سرديات الحنين والمفارقة السياسية في الذكرى الـ43 لتأسيس المؤتمر الشعبي العام

الإثنين - 25 أغسطس 2025 - الساعة 08:47 ص
مصطفى المخلافي

بقلم: مصطفى المخلافي
- ارشيف الكاتب


مصطفى المخلافي


كثيرة هي الكيانات السياسية التي نشأت في لحظات محايثة للانهيار أو متربصة على أطراف الحلم، إلا أن حزب المؤتمر الشعبي العام، في بنيته التكوينية الأولى، لم يُصغ كجسم سلطوي، بقدر ما كان مؤسسة طوعت الواقع اليمني ليبدو مشهد منسجم مع ذاته، وفي الذكرى الثالثة والأربعين لتأسيس هذا الحزب، يتجلى المؤتمر الشعبي العام كذاكرة تستدعي الحلم، وتلهم الوعي، وتعيد الاعتبار لتاريخ رسم ملامح الدولة على مدى ثلاثة عقود.


والحقيقة عندما يُستعاد الحديث عن لحظة تأسيس حزب المؤتمر الشعبي العام، لا أراها محض واقعة سياسية جافة تُسرد على عجل في البيانات أو المذكرات، بقدر ما تبدو لي كمقطع حي من الذاكرة الوطنية، تفيض بالحكايات والمواقف والمشاعر، وتتطلب من القارئ أن يُنصت لما خُبئ أيضاً في ما وراء الكلمات.


لقد كان التأسيس كما أتذكره من أحاديث من عايشوا البدايات، فعلاً وجودياً، ولحظة امتلأت فيها القلوب بالحماسة، وتعانقت فيها الإرادات على أمل مشترك في زمن كانت فيه السياسة أكثر من مهنة أو وظيفة، ولذا كانت مرحلة تأسيس حزب المؤتمر الشعبي العام، انخراطاً كاملاً في مصير البلاد، ونداءً للاستقلال الحقيقي، ليس عن واقع التشرذم وحده الذي كانت عليه البلاد، إنما عن كل أشكال التبعية والخذلان.


أتذكر عندما كنت في سن المراهقه، كنت أتابع الحوارات الأولى التي كانت تدور في الزوايا المعتمة من المقاهي، أو في بيوت متواضعة تحت ضوء باهت، وحين أستحضر تلك اللحظة الآن، أراها فصل من فصول التاريخ، وأقرأها كما يُقرأ نص روائي مكتنز بالمعاني، فيه الظاهر والباطن، وفيه أيضاً تلك المنجزات التي تملأها الوثائق، وتملأها الذاكرة اليمنية حتى يومنا هذا.


إن لحظة التأسيس حين نتأملها الآن، لا تبدو واقعة زمنية محددة، بقدر ما تشبه وعداً راسخاً في الذهنية الوطنية، ونداء لم يخفت صداه رغم تقادم الأعوام، ينتقل بين الأجيال، ويلح السؤال؟ ما الذي كنا نطمح إليه؟ أي حلم حملناه معنا إلى الطريق؟ وأي جزء من هذا الحلم تعثر وسقط بين خطانا دون أن ننتبه؟ ولذا ما بقي في النفوس بعد كل هذا، ليس فقط ما تحقق، بالعكس هو ما ظل معلقاً في الأفق، شاهداً على إصرارنا وعلى انكساراتنا معاً.


قد يُخيل للبعض، خاصة من بين المكونات السياسية الأخرى، أن هذا الحديث ينطوي على قدر من المبالغة في حب المؤتمر الشعبي العام، أو أنه يحمل نزوعاً عاطفياً نحو مرحلة كان فيها الحزب في موقع السلطة، وتميز خلالها نظامه بانفتاح على التعددية السياسية وقبول الآخر، ولذا فإن عودة المؤتمر الشعبي العام اليوم، لا تحتاج إلى سرد خطي أو توثيق زمني صارم حتى يكون حاضراً، فالحزب في وجدان الملايين، ويُستعاد كحالة رمزية، وكإسقاط ذهني، وكـطيف سياسي لا يزال يتردد في الذاكرة العامة.


ذلك لأنه متجذر في أصول النظام الجمهوري، وفي أدبياته التأسيسية، وفي أذهان من عايشوا مراحله المختلفة، وكذلك في وعي الأجيال التي جاءت بعده، والتي لا تزال تستدعيه كجزء من سردية وطنية لم تنتهي بعد.


ولهذا فإن حزب المؤتمر الشعبي العام، يعد اليوم أثراً تجاوز تصنيف الكيان السياسي، ليصبح كياناً وطنياً سردياً يُستعاد في الذاكرة اليمنية كمرجعية حكم تستحق أن تُدرس، وهنا ربما يبدأ التفاوض النصي بين القارئ والتاريخ، وبين المواطن والذاكرة، وكذلك بين اللحظة ومراياها المتكسرة.


إن ميثاق حزب المؤتمر الشعبي العام، شبيه بما وصفه فيليب لوجون في ميثاق السيرة الذاتية، يقوم على نظرية التطور، وبأن الحزب ليس مجرد منظومة تنظيمية، بقدر ماهو سرد للكرامة والمعنى الذي كان عليه الحزب، وإذا كان السارد في المذكرات يتماهى مع المؤلف، فإن المواطن اليمني اليوم يتماهى مع حزب المؤتمر بوصفه سارداً لتجربته الجمعية، تجربة كُتبت بآليات وأسس وطنية، لكنها تبحث كما تبحث كل نصوص ما بعد الحقيقة عن خيط سردي يعيد تشكيل اليمن وفق منطق داخلي.


ولأن سرديات العودة غالباً ما تكتسي بطابع أسطوري، فإن المؤتمر الشعبي العام لم يعد يُستدعى في الذاكرة الجمعية بوصفه حزباً سياسياً، إنما بوصفه ميثولوجيا وطنية، أي بمعنى آخر، رمزاً حياً لماضي مملوء بالمعنى، وإطاراً جامعاً لحالة وطنية تشكلت في الوجدان اليمني عبر عقود من الحضور والتأثير، والميثولوجيا هنا لا تعني الخيال المنفصل عن الواقع، بل تشير إلى منظومة من القيم والصور والرموز التي تتجاوز حدود السياسة المباشرة، وتتحول إلى جزء من الوعي العام، يتوارثها الناس كما يتوارثون الحكايات المؤسسة لهويتهم الجماعية.


ولأجل هذا نقول دائماً إن استعادة المؤتمر لشعبي العام اليوم، هو استعادة لحالة ولزمن جمع الناس على هدف، وأعطاهم شعوراً بالأمان والانتماء، ولا يبدو غريباً أن ترى الملايين تسعى خلف عودة هذا الحزب، الذي جعل الألم مفهوماً ومحمولاً داخل سردية وطنية أوسع، ليكون هو الرهان الأصدق، والذاكرة الأقوى، والنصر الذي لا يُهزم.


وهنا تتجلى المفارقة بوضوح، ففي الوقت الذي تعجز فيه الكيانات السياسية الجديدة عن إنتاج سرديات جامعة قادرة على توحيد المخيلة الشعبية، ينجح الكيان الحاضر الغائب، أي الحزب الذي لم يعد في موقع الحُكم كما كان، في التمدد داخل الوجدان العام، من خلال المساحات التي خلفها غيابه، وهذا ما يجعل من الذكرى في سياق المؤتمر الشعبي العام، ليست مجرد استدعاء نوستالجي لماضي سياسي، إنما محاولة حقيقية لإعادة تشكيل الحاضر، وفتح أفق جديد لإعادة كتابته من خلال رمزية الماضي وفاعليته المستمرة.


بهذا المعنى، لا يبدو المؤتمر الشعبي العام بحاجة ماسة للعودة إلى المشهد كمؤسسة منظمة تمارس سلطتها المباشرة كي يظل فاعلاً ومؤثراً، يكفي أن يُستعاد بوصفه قصة تُروى، وسردية تتناقلها الألسن، وتحيا في الذاكرة الشعبية كموقع راسخ في المخيلة السياسية اليمنية، ولذا لا يزال حزب المؤتمر الشعبي العام محتفظاً بالكثير من رمزيته وقداسته، وبقدرته العجيبة على مقاومة النسيان والتلاشي، رغم كل ما مر به من تحولات ومن مؤامرات لإجتثاثه.


ختاماً:

إن ما يجعل حزب المؤتمر الشعبي العام متفرداً عن غيره من الكيانات السياسية، هو هذا التحول اللافت الذي شهده، من مشروع سلطة حاكمة إلى سردية مقاومة، ومن نظام سياسي قائم إلى ذاكرة جمعية تسكن وجدان الناس، وكما هو الحال في السرديات الروائية الكبرى، لا يُطلب من القارئ أن يُسلم بجميع وقائع النص أو يؤمن بها إيماناً مطلقاً، إنما يفهم السياق ويتفاعل مع رموزه، ويتشبع بما يحمله من دلالات، والمؤتمر الشعبي العام اليوم، ليس مجرد حزب، إنما هو هذا النص المفتوح على التأويل، القادر على الحياة خارج شروط السياسة الضيقة، بوصفه حكاية كبرى ما زالت تتردد في الذاكرة، وتمنح الحاضر معنى.

صباح الخير يا أستاذ

صباحك