فمما لا يختلف فيه اثنان من أهل التوحيد و الإيمان و نسطره بالبنان و نكرره باللسان و نعممه بالبيان مرة بعد مرة و كرة بعد كرة:
أن الواجب على أهل العلم و المحابر و الوعظ و المنابر أن يكونوا مع من يقيم كتاب رب الأرباب و سنة سيد أولي الألباب على نهج خير الصحاب.
فإنهم فعلوا ذلك كانوا فوق هام السحاب و إن هم عدلوا عن ذلك كانوا وقود الفرقة والاحتراب و دعاة الفتنة و الخراب و علمهم يباب و عملهم كالسراب و هذا فصل الخطاب.
فيجب على أهل العلم و المحابر و الوعظ و المنابر إذا أرادوا أن يكونوا موفقين إلى الخير و السداد مجانبين الضير و الفساد أن يتوافر فيهم أمران:(الإخلاص و العلم):
((فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا)).
فيجب أن يكونوا مخلصين فيما ينطق به اللسان و يخطه البنان لا يريدون من الناس جزاء و لا شكورا و لا يخافون منهم رهقا و لا ثبورا و يرجون ربا حليما شكورا.
و أن يكونوا عالمين بما يسطرون و يشيعون محيطين بما ينشرون و يذيعون.
فيدعون إلى الله على علم و بصيرة بنفوس عزيزة بالله لا كسيرة لأجل الكسرة و الحصيرة و الخميصة و الخميرة فتلك و الله كبيرة:
((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني)).
فكم من مدع للخير لم و لن يصيبه بل أصاب الناس بمصيبة!
فإذا لم يكن صاحب البيان باللسان و البنان طبيبا حاذقا يشخص الداء ثم يصف الدواء دون وكس و لا شطط كان ضرره أكبر و فساده أخطر.
و ينبغي لأهل العلم و المحابر و الوعظ و المنابر ألا يتزيوا إلا بلباس الحق و لا يتقلدوا إلا قلم الصدق و أعني بذلك من كان منهم للمحابر و المنابر أهلا جمع علما و فضلا و نهل الناس من نهر علمه و فوائده نهلا.
و أما أدعياء العلم و الخطابة و الوعظ و الكتابة فلسنا منهم في شيء و لا يلوون على على شيء:
فدع عنك الكتابة لست منها***و لو غرّقت ثوبك بالمدادِ
فكيف يجوز في الكُتَّاب فَدْمٌ***عقيم الفهم منخوب الفؤادِ
و قال آخر و أحسن:
يعي غير ما قلنا و يكتب غير ما* **يعيه و يقرا غير ما هو كاتبُ
و قال آخر بتصرف يسير مني:
ليس يدري في خطابته***ما قبيح الأمر من حسنهِ
فكم من جاهل مبرسم و سفيه مقزم اعتلى منبرا أو صار بيده قلم فجرح الناس و كلم و أصابهم منه الألم و لا سلم الناس من شره و لا سلم!
و كم من صاحب محبرة و منبر منظر لا مخبر صار في خاصرة الحق كخنجر يصدّع جمعا لا يصدع و يجمّع صدعا لا يجمع!
و ينبغي لأهل العلم و المحابر و الوعظ و المنابر أن يصدعوا بالحق لا أن يصدَّعوا الخلق إلا من أعمى الله بصيرتهم فلا يحملون جريرتهم:
((فاصدع بما تُؤمر))
و في وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي ذر رضي الله عنه كما في صحيح ابن حبان و غيره:
((قُلِ الحقَّ و لو كان مُرَّاً)).
ألا و إن للصدع بالحق صرعى كالذين يتخبطهم الشيطان من المس فمن كان كذلك فلا يبالي بهم ذو عقل و علم و لا يلتفت إليهم ذو بصيرة و حلم.
و من أرضى كل الخلق حقيق أن يسخط الحق.
و صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ يقول فيما رواه ابن حبان في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها:((من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه و أرضى الناس و من التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه و أسخط الناس عليه)).
و لا يفعل ذلك إلا من في قلبه علة و في عقله قلة و في نفسه ذلة من عبّاد المكاسب و المناصب و الناس من أهل الاعوجاج و الباس الذين لبسوا من الضلالة شر لباس.
فيا أهل العلم و المحابر و الوعظ و المنابر لا بنبغي أن تُقيّدوا أتباعا خاضعين و أُجراء خانعين في السجلات و الدفاتر منضوين تحت لواء فلان أو حزب علان أو دولة فلتان!
فهذا عين الضلالة و البهتان و الانحراف و الطغيان و لا يسوّغه أن جمعا به لا يستهان ممن يشار إليهم بالبنان قد باع نفسه و هان و المحابر و المنابر أهان و سخرها لدحض الحق بالهذيان و نشر الباطل و البهتان:
((و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار))
((و لا تكن للخائنين خصيما)) ((و لا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم)).
و في الأثر((من أعان ظالما بباطل،ليدحض بباطله حقا،فقد برئ من ذمة الله عز وجلّ،و ذمة رسوله)).
فيا أهل العلم و المحابر و الوعظ و المنابر لا تكونوا لسان الطغاة الظالمين و ترجمان العتاة الطاغين و مناديل الفجرة المجرمين!
يمسحون بكم أمام العامة العقوق و المظالم و الفواقر و العظائم و الذل و الهزائم ثم يسلطون عليكم الأراذل و الأزلام و السفلة و الأقزام فتداسون بالنعال و الأقدام بعد أن احترقتم و أنهيتم ما أرادوا من المهام.
فأهل الفسق و الفجور و الظلم و الشرور من الساسة الذين سياستهم شيطنة و خساسة يستخدمون من باع و خضع و طمع و خنع من أهل العلم و المحابر و الوعظ و المنابر كأحجار على رقعة شطرنجهم مضحين بهم في تنقلاتهم و تقلباتهم و ملاعبتهم خصومهم للوصول إلى أهدافهم.
فيا أيها المفتونون و المتلونون مهما انسدحتم و انسلختم وانخلعتم فلن يرضوا عنكم حتى يلج الجمل في سم الخياط.
سيصفقون لكم و يضحكون منكم لا لكم و يقدمونكم قربانا لطغيانهم و كبش فداء ظلمهم و بهتانهم.
و لشدة ضجيج التبجيل لكل متلون تافه هزيل و لعلو صوت التصفيق صرتم صُمّاً بوجه صفيق لا تسمعون نصح الناصحين و لا إنكار المنكرين بحق واضح مبين.
أبهرتكم و أعمتكم الأضواء المسلطة عليكم و التي ستحرقكم عاجلا أو آجلا!
فعميتم عن شمس الحق و نور الهداية لأنكم واقعون تحت أسر أضواء الغواية.
أنتم اليوم مندايل في جيوب الطغاة الظالمين و العتاة المجرمين يحتاجونكم لمسح ذنوبهم و ما أقترفته أيديهم.
و إذا انتهوا من مسح قاذوراتهم بكم فسيرمونكم ثم يدوسونكم بأقدامهم.
فعندهم لأمثالكم سجلات تنوء بالعصبة أولي القوة بما نطق لسانك و شفتاك و اقترفت و خطته يداك في رضاهم لا في رضا مولاك!
فمتى ما نفد تلبيسك و تدليسك و بلغت الإهلاك،أرادوا لك الهلاك فأخرجوا السجلات و عرضوها و أزالوا عنها غبار(السرية)و نفضوها.
و أشاعوها و أذاعوها و جعلوها عليك قاضية و لأعمالك متقاضية!
ظهروا للناس و كأنهم أهل الحق و العدل و عندها سبق السيف العذل و سيطلقون عليك كل نابح و فسل و تافه و نذل كما أطلقوك كالكلب العقور من قبل.
و لن تبكي على مثلكم البواكي فكم حرّفتم و دلّستم و انحرفتم و لبّستم فجعلتم التقي آثما و المظلوم ظالما و الأشقياء الفجرة أتقياء بررة!
و كم من عين بظلم أبكيتم و كم من جسد بباطل أمتّم و أدميتم و كم من معروف أزلتم و ما أبقيتم و في سبيل الباطل نافقتم و أفتيتم و أعماركم أضعتم و أفنيتم.
يا أهل العلم و المحابر و الوعظ و المنابر اليوم أحياء و غدا في المقابر فلا تكونوا للظالمين نعالا و مداسا و لسؤاتهم سترا و لباسا.
و ليكن لسان حالكم و مقالكم:(لست بالخب و لا الخب يخدعني):
أنفس الشوق و لا ينفسني...و إذا قارعني الهم رجع
أصرع القرن إذا نازلته...و إذا صارعني الخبُّ صُرع
عمّرك الله أما تعرفني...أنا حرّاث المنايا في الفزع
أنا كالسيف إذا وادعته...لم يروّعك و إن هزّ قطع
و لولا خشية الملالة لكان لي مندوحة في الإطالة و لكن بهذا القدر أكتفي و إن كانت النفس لم ترتوِ.
اللهم هل بغلت اللهم اشهد
اللهم هل بلغت اللهم اشهد
اللهم هل بلغت اللهم اشهد.
كتبه:أبو الحسن جلال بن ناصر المارمي.