في حضرموت، حيث الغضب لا يُقاس بسعر الدولار، خرج المواطنون يطالبون بخفض أسعار السلع إثر تحسن سعر الصرف. لكن الرد لم يأتِ من الجهات الرسمية، بل من أكبر مجموعة تجارية في اليمن: مجموعة هائل سعيد أنعم وشركاه. بيانها الصادر في 2 أغسطس 2025 بدا وكأنه يُدافع عن "الواقعية الاقتصادية"، لكنه في جوهره يُعيد تعريف الأزمة من وجهة نظر المحتكر.
البيان يُحذر من "اضطرابات تموينية" و"إفلاس واسع" للتجار، وكأن المواطن الذي أفلس منذ زمن — ولم يُصدر له أي بيان — ليس جزءًا من هذه المعادلة. اللغة المستخدمة لا تُخاطب الناس، بل تُخاطب السوق، وتُحمّل المطالب الشعبية مسؤولية انهيارٍ محتمل، دون أن تُشير إلى أن انهيار قدرة المواطن الشرائية كان أول المؤشرات الحقيقية للأزمة.
البيان يتحدث عن "التكاليف الفعلية" و"العملة الصعبة"، لكنه لا يذكر شيئًا عن أرباح السنوات الماضية، أو عن احتكار السوق، أو غياب المنافسة. بل يطالب بـ"عدم الانجرار خلف حملات الإثارة"، وكأن الغضب الشعبي هو زوبعة إعلامية، لا وجعٌ حقيقي يُعبّر عن اختناقٍ معيشي.
وراء هذا الخطاب تلوح هيمنة الاحتكار لا كمشكلة اقتصادية فحسب، بل كأداة لإعادة تشكيل السردية العامة. فحين تملك مجموعة تجارية هيمنةً شبه كاملة على قطاعٍ حيوي، تُصبح "الواقعية" انعكاسًا لمصالحها، لا لتحديات الناس. الخطاب المُصاغ هنا لا يرد على المطالب الشعبية، بل يُخاطب الجهات الرسمية بلغة التخويف، مُصوّرًا أي محاولة لكسر المعادلة الاحتكارية على أنها تهديدٌ للأمن الغذائي.
الاحتكار يُحوّل الحوارات الاقتصادية إلى بيانات تحذيرية، ويُعيد تعريف الاستقرار على أنه استقرار أرباحه لا استقرار حياة الناس. وهذا الانحراف في الخطاب يُبرر تجاهل انخفاض سعر الصرف، ويُحوّل مطلبًا طبيعيًا — كخفض الأسعار — إلى خطرٍ اقتصادي مزعوم.
المفارقة أن من يدّعي الانحياز للمستهلك، لم يُبادر بخفض الأسعار، بل ببيان يُفنّد الأسباب لعدم خفضها. هنا تتجلّى أزمة المفاهيم: فـ"المصلحة العامة" تُعرّف بما يُريده المحتكر، لا بما يحتاجه المواطن للبقاء. و"الواقعية" تُضبط وفقًا لهوامش الربح، لا وفقًا لمعيار العدل الاجتماعي.
إذا كانت مجموعة هائل سعيد أنعم تؤمن حقًا بـ"التوازن بين مصلحة المستهلك واستقرار السوق"، فليبدأ هذا التوازن بخطوة عملية: خفض الأسعار. لا يكفي الحديث عن المسؤولية المجتمعية في بيانٍ يُنكر وجع الناس. فالكلمات لا تُشبع، والبيانات لا تُطعم.