طه بافضل
في زمنٍ تتوالى فيه إعلانات نتائج امتحانات الثانوية العامة، وتتضخم معها أرقام النجاح كبالونٍ ينتفخ بالهواء، لا يملك المرء إلا أن يتساءل: ما الذي تحتويه هذه الأرقام حقًا؟ وهل تعكس، ولو بجزءٍ يسير، واقع التعليم المتدني الذي نعيشه؟ يبدو أننا وصلنا إلى مفترق طرقٍ، حيث أصبحت الشهادة الثانوية، بدل أن تكون بوابةً للمعرفة والتقدم، عبئًا يرزح تحته الطلاب والمؤسسات التعليمية على حدٍ سواء.
دعونا لا نُغالط أنفسنا، فواقعنا التعليمي بات يئنّ تحت وطأة عوامل عديدة: من تدني المستويات التعليمية للطلاب، إلى تفشي ظاهرة الغش التي باتت تنهش جسد العملية التعليمية، وصولًا إلى التهاون الفاضح في عملية تصحيح دفاتر الامتحانات من قبل مكاتب وزارة التربية والتعليم، والتي يبدو أن همّها الأوحد هو تحقيق "نسبة نجاح مرتفعة" تُرضي البيانات الإحصائية، لا تُنتج عقولًا نيرة.
وفي خضم هذا العبء، لا يمكننا تجاهل التكاليف المالية الباهظة التي تُصرف سنويًا على هذه الامتحانات. فمن طباعة الأسئلة وأوراق الإجابة بكميات هائلة، مرورًا بأجور المراقبين والمصححين الذين يعملون لساعات طويلة، وصولًا إلى نفقات الأمن وتأمين اللجان لمنع الغش، كلها بنود تستنزف ميزانية التعليم، دون أن تعود بالنفع المرجو على جودة المخرجات. هذه الأموال، التي تُقدر بالملايين، يمكن توجيهها نحو تطوير المناهج، تدريب المعلمين، أو تحسين البنية التحتية للمدارس، بدل أن تُهدر في عملية أصبحت جزءًا من المشكلة لا الحل.
في هذا المشهد المأزوم، تبرز فكرةٌ قد تبدو جذرية للوهلة الأولى، لكنها تحمل في طياتها حلولًا لمآزقنا الراهنة: لماذا لا نُلغي امتحانات الشهادة الثانوية؟ أجل، نلغيها تمامًا، ونجعلها امتحانات نقلٍ كغيرها من الامتحانات، فلا تبقى هي "بعبع" الطلاب والعامل المحفز لكل هذا التدهور. قد يبدو الأمر صادمًا، لكنه يحمل مصالح جمة تستحق النظر.
أولًا، سيزيح هذا الإلغاء ضغطًا هائلًا عن كاهل الطلاب، الذين يتحولون خلال هذه الفترة إلى آلاتٍ حفظ، لا عقولًا مفكرة. سيمكنهم ذلك من التركيز على فهم المواد الدراسية بعمق، لا على استظهارها لغرض الامتحان. سيتحول التعليم إلى عملية بناء معرفة حقيقية، لا سباق محموم نحو ورقة إجابة.
ثانيًا، سيوجه هذا التحول البوصلة نحو الأهم: الجامعة. فلتكن الجامعات هي المعيار الحقيقي لتقييم قدرات الطلاب، من خلال امتحانات قبولٍ صارمة وشفافة. هذا التركيز سيجعل الطالب يُدرك أن مساره التعليمي الحقيقي يبدأ بعد الثانوية، وأن قبوله في الجامعة مرهونٌ بقدراته الفعلية واستعداده الأكاديمي، لا بمجموعٍ قد يكون محصلة للغش والتساهل. ستتحول الجامعات حينها إلى "محك" حقيقي للقدرات، لا مجرد استكمال لمسيرة تعليمية هشة.
ثالثًا، سيسهم هذا التغيير في إعادة الاعتبار للمعلم ودوره. فبدل أن يكون المعلم مجرد "مُلقّن" يركز على "تغطية المنهج" لغرض الامتحان، سيصبح "مُربّيًا" و"مُرشدًا"، يساهم في بناء شخصية الطالب وقدراته المعرفية بشكلٍ متكامل، بعيدًا عن سطوة الاختبارات النهائية.
إنها دعوةٌ جريئة، نعم. ولكن أليس واقعنا الراهن يستدعي جرأةً في التفكير؟ هل نُبقي على نظامٍ أثبت فشله في تخريج أجيالٍ قادرة على مواجهة تحديات المستقبل، أم نتجرأ على التغيير، علّنا نُعيد للتعليم هيبته، وللشهادة قيمتها، وللطالب كرامته؟ فلتكن الجامعة هي المحك، وليكن القبول فيها بوابةً للتميز، لا مجرد محطة عبورٍ تعكس وهمًا بالنجاح.