آخر تحديث :الإثنين-15 سبتمبر 2025-09:13ص

تحليلٌ عميقٌ لبيان نقابة معلمي حضرموت

الأربعاء - 23 يوليو 2025 - الساعة 10:49 م
طه بافضل

بقلم: طه بافضل
- ارشيف الكاتب


المطالبُ، في نظر العين السطحية، هي مجردُ قائمةٍ من الأرقام والبنود، تُقدمها فئةٌ تسعى لتحسين ظروفها. لكن في بيان "نقابة معلمي وتربويي حضرموت الساحل"، تتجاوز المطالبُ كونها مجرد أرقامٍ جامدة، لتُصبح مرآةً تعكسُ انهيارَ دولةٍ وتفككَ مجتمعٍ بأكمله. إنها ليست مطالبَ ترفٍ أو تحسينٍ، بل هي صرخةُ بقاءٍ من فئةٍ كانت ذات يومٍ قاطرةَ التنوير، واليوم هي قاب قوسين أو أدنى من التسول والضياع.


المطلبُ الأول والأبرز: "صرف رواتب المعلمين بما يعادل صرف العملة للعام 2014 م". هذا الرقم، 2014، ليس مجردَ تاريخٍ في الذاكرة، بل هو نقطةٌ فاصلةٌ تُشير إلى ما قبل الانهيار الكبير. إنها سنةٌ تُمثّلُ آخرَ عهدٍ بالاستقرار النسبي، بحدٍ أدنى من القيمة الشرائية للراتب. المطالبة بالعودة إلى هذا المعيار هي اعترافٌ ضمنيٌ بأن كل ما تلا 2014 كان هاويةً اقتصاديةً لا قاع لها.


المعلمون لا يطالبون بتحسينٍ يتوافقُ مع التضخم الحالي، فهم يعلمون أن ذلك ضربٌ من الخيال في ظل دولةٍ لا تملك أدوات الاقتصاد. بل يطالبون بالعودة إلى وضعٍ أقل سوءاً، إلى الحد الأدنى الذي يسمح بالعيش الكريم لا بالبقاء على قيد الحياة بصعوبة. هذه المطالبة ليست اقتصاديةً بحتةً؛ إنها سياسيةٌ بامتياز، تُدينُ الفشلَ الذريعَ للإدارة الاقتصادية والسياسية لما بعد 2014، وتُسائلُ عن مصير ثروات البلاد ومواردها.


المطالبة بـ"علاوة غلاء معيشة بنسبة 100/200 من رواتب المعلمين" ليست سوى تأكيدٍ آخر على عمق الهوة. هذه النسبةُ الفلكيةُ ليست رغبةً في الثراء، بل هي محاولةٌ يائسةٌ لمجاراة تضخمٍ جامحٍ التهم كل مدخرات الأسر، وحوّل الرواتب إلى مجرد فتاتٍ لا يكفي لسد رمق الجوع.


البنود المتعلقة بـ"المتعاقدين" تكشف عن جرحٍ غائرٍ في جسد العملية التعليمية. "صرف رواتب المتعاقدين على أساس الحد الأدنى للأجور (100 دولار أمريكي)" و"العمل على توظيف المتعاقدين كافة، كونهم يمثلون ما يقارب الـ80% من الكادر الوظيفي". هذه الأرقامُ صادمةٌ، فنسبة 80% من الكادر التعليمي يعملون بنظام التعاقد، أي أنهم خارج الحماية القانونية الكاملة، وبأجورٍ زهيدةٍ لا تكفي لعيشٍ كريم. هؤلاء المتعاقدون ليسوا مجرد أرقامٍ، بل هم جيلٌ كاملٌ من الشباب المعلم الذي يُهدرُ كرامته وقدراته في بيئةٍ لا تُقدّرُ العلم ولا العاملين به. تسربهم، الذي يُحذرُ منه البيان، ليس تهديداً بانهيار العملية التعليمية فحسب، بل هو إشارةٌ إلى هجرةِ العقولِ والكفاءاتِ من هذا القطاع الحيوي، بحثاً عن "مصادر أخرى للعيش الكريم"، وهو ما يُنذرُ بمستقبلٍ تعليميٍ مظلمٍ في حضرموت.


المطالبُ المتعلقة بـ"مستحقات المعلمين كافة من العلاوات والتسويات العالقة بأثر رجعي" و"تسريح المحالين إلى التقاعد وصرف رواتب كل المتقاعدين على أساس ما يعادل رواتبهم للعام 2014" تُسلّطُ الضوءَ على إهمالٍ تاريخيٍّ وتراكمٍ للحقوق. المعلمُ المتقاعد، الذي أفنى عمره في خدمة الأجيال، يُجبرُ على مواجهة الشيخوخة والفقر المدقع. هذه ليست مجرد مستحقاتٍ ماليةٍ، بل هي قضايا كرامةٍ إنسانيةٍ تُلقي بظلالها على مفهوم العدالة الاجتماعية والوفاء بالالتزامات.


المطالبة بـ"انتظام صرف الراتب الشهري في موعده المحدد قبل نهاية كل شهر ميلادي" تكشف عن فوضى إداريةٍ مزمنة، وتُبيّنُ أن المعلم باتَ يعيشُ حالةً من عدم اليقين المستمر حول موعد استلام قوته اليومي. أما "الإسراع في إصدار قانون التأمين الصحي"، فهو يكشف عن غيابٍ كاملٍ لأبسط أشكال الرعاية الاجتماعية في بلدٍ يعاني فيه الناس من تبعات الحرب والانهيار.


رفضُ الحلولِ الترقيعيةِ: نداءٌ إلى تغييرٍ حقيقيٍّ

المطلبُ الأخير، "رفض الحلول الترقيعية لكي لا تتكرر الإضرابات والمطالبة الدائمة بانتزاع الحقوق"، هو بيتُ القصيدِ. إنه يُشيرُ إلى وعيٍ عميقٍ لدى النقابة بأن الأزمة ليست ظرفيةً يمكن حلها بمنحةٍ أو علاوةٍ مؤقتة. إنها أزمةٌ هيكليةٌ تتطلبُ إعادةَ بناءٍ كاملٍ لمؤسسات الدولة، وإعادة تعريفٍ لدورها ومسؤوليتها تجاه مواطنيها.


رفضُ الترقيع هو رفضٌ لاستمرار الحلقة المفرغة من الأزمات والمطالبات، وهو نداءٌ لتغييرٍ حقيقيٍّ يُعيدُ للدولة هيبتها ولقيمة المعلم مكانتها.


في جوهرها، لا تُقدمُ هذه المطالبُ حلاً، بل هي تُشخّصُ مرضاً عضالاً: مرضُ غيابِ الدولةِ الفاعلةِ والمسؤولةِ. إنها صدىً للتصدع العميق في النسيج الاجتماعي، وصرخةُ استغاثةٍ من أولئك الذين يحملون مشاعل النور في زمنٍ تُطفأ فيه الأنوار. إنها ليست مطالبَ أرقامٍ، بل هي مطالبُ حياةٍ وكرامةٍ ووطنٍ.


ملاحظات على صياغة البيان:

طول البيان الذي تجاوز المألوف في بيانات النقابات، إلى جانب توظيف بعض الآيات الكريمة في سياقاتٍ لا تتناسب تمامًا مع خطاب المطالب النقابية الصريح، يُمكن أن يُفقد النص جزءًا من قوته المباشرة، ويُضعف من تأثيره كوثيقة تُركز على الأبعاد المطلبية الصرفة لـالمعاناة المعيشية، التي لا تحتاج إلى تبريرٍ دينيٍّ لإثبات حقِّها. فصوت المعلم المقهور، بحد ذاته، هو أبلغ حجة.