آخر تحديث :الثلاثاء-16 ديسمبر 2025-02:02م
أخبار وتقارير

طه العربي.. مُدرّس يمني لم تُفقده الإعاقة رسالته التعليمية

الثلاثاء - 16 ديسمبر 2025 - 10:10 ص بتوقيت عدن
طه العربي.. مُدرّس يمني لم تُفقده الإعاقة رسالته التعليمية
عدن الغد- العربي الجديد

على كرسيّه المتحرك، يشقّ المعلم طه العربي، وهي شهرته التي فاقت اسمه الحقيقي طه الشرعبي، طريقه وهو يسابق شمس الصباح للوصول إلى المدرسة التي يفتح أبوابها قبل جميع الطلاب والأساتذة. يقابله الكبار والصغار بابتسامة تقدير وإجلال، وكأنه يفتح أمامهم بصيص أمل ونور، على الرغم من الجراح التي تربض على ظهره.

أما التلامذة الصغار فينظرون إليه بمهابة واعتزاز، وكأنها نظرة الأبناء نحو أبيهم، تمتزج فيها مشاعر الحب والطاعة والفخر، كونهم حظوا بفرصة التعلّم على يد معلمٍ يمنحهم دروساً نظرية، ودروساً أخرى من الحياة.

هناك في ريف مدينة تعز جنوب غربي اليمن، وتحديداً بين الجبال الشاهقة في مديرية مقبنة، يروي العربي حكايته وتفاصيل حياته التي صارت "مدرسة" في الإلهام للأجيال، تثبت أن الآمال العظيمة تصنع الأمم العظيمة. فقد بات معظم اليمنيين، وعلى الرغم من المآسي التي تغرق فيها البلاد، يردّدون القول: "لا خوف على وطنٍ أنجب طه العربي".

وُلد طه حسن الشرعبي عام 1974 في قرية الدرب الواقعة ضمن عزلة الرعينة التابعة لمديرية شرعب الرونة بمحافظة تعز، ونشأ وسط بيئة سياسية تمنح جلّ اهتمامها لقضايا العروبة. وفي كنف القراءة والتثقيف، ترعرع هذا الشاب متأثراً بالفكر العروبي، فصارت شهرته "طه العربي".

عام 1992 نال طه شهادة دبلوم عام، قبل أن يحظى بعد سنة واحدة بوظيفة مُدرّس تابع لوزارة التربية والتعليم، وتحديداً في مدرسة التصحيح بعزلة الأخلود في مديرية مقبنة. وعام 1997 نُقل إلى مدرسة الأجيال مزاندة في عزلة اليمن بمديرية مقبنة، ولا يزال فيها حتّى اليوم. ومهنة التدريس هي المهنة التي ظل مخلصاً لها، ومؤمناً بأهميتها في بناء الفرد والمجتمع.

ومع الحرب التي يشهدها اليمن، والتي أعقبت انقلاب الحوثيين على الدولة قبل أكثر من عشر سنوات، كانت التنشئة الفكرية التي ترعرع عليها طه العربي هي الحافز الأول الذي دفعه إلى تلبية نداء الواجب، دفاعاً عن الدولة.

ويؤكد طه لـ"العربي الجديد" تأييده المقاومة منذ البداية في وجه الانقلاب الذي قاده الحوثيون ضد السلطة ونظامها الجمهوري، ويقول: "شاركتُ في كثير من الجبهات، وكنت قائد تبة (جبل صغير) النصر، أرابط فيها ليلاً، وأعود صباحاً إلى المدرسة لأواصل رسالتي التعليمية".

وعن برنامجه اليومي الذي جمع فيه بين مهمّتَي التعليم والقتال، يضيف: "كنتُ أنام من فترة الظهر وحتى الخامسة عصراً، وكان أولادي يوقظونني للذهاب إلى الجبهة. واصلتُ النمط ذاته لأكثر من ثماني سنوات، ولم أغِب يوماً عن المدرسة أو عن الجبهة".

كان طه يعزّز الوعي والمعرفة لدى تلامذته نهاراً، ويتحوّل إلى أستاذ في ساحات القتال ليلاً، يقود مجموعة من الشبّان. قبل أن يأتي اليوم الذي قلب حياته رأساً على عقب، من دون أن ينال من عزيمته وإصراره على إكمال رسالته في الحياة. فعند الثانية من فجر السبت الموافق 1 مارس/ آذار 2025، وخلال مشاركته في إحدى جبهات القتال ضد الحوثيين، انفجر به لغمٌ أرضي أدّى إلى إصابات حادّة، تسبّبت لاحقاً في بتر ساقَيه من أعلى الركبة، وإصابة يده اليُمنى وعينه اليُمنى.

جاءت الإصابة موجعة، بحسب قوله، كونها ستعيقه عن مواصلة الكثير من تفاصيل حياته، وستُرخي بظلالها المؤلمة على زوجته وابنته وأبنائه الستّة. لم يكن يشغل بال طه أكثر من التفكير بالعودة إلى الصفوف الدراسية لمواصلة رسالته التعليمية، ويقول: "بعد إصابتي بعشرة أيام، كنت أفكر بموعد مغادرتي المستشفى كي أعود إلى المدرسة، كنت أبحث عن كرسي متحرك، وعندما زارني مدير مديرية مقبنة طلبتُ منه ذلك، فقدّم لي كرسيّاً غير كهربائي، بدأتُ في استخدامه بالمدرسة"، ويضيف: "بعد متابعتي مع اللجنة الطبية حصلتُ على كرسي متحرك كهربائي يساعدني في التنقل على نحوٍ أفضل بين الصفوف". وعلى الرغم من إصابته الشديدة، إلّا أنّه لم يغِب يوماً عن الطلاب الذين تربطه بهم علاقة مبنية على المحبة والأخوّة.

يدرك طه أن قوانين البلاد تحيل أمثاله إلى التقاعد مع الاستمرار بصرف رواتبهم، إلّا أن إيمانه بقداسة مهنة التدريس ودورها في بناء الأوطان كان أقوى، ويقول: "عدتُ إلى مهنة التدريس إيماناً منّي بأن العلم هو الوسيلة والأساس لتقدم وازدهار الأمم والشعوب، وهو السلاح الذي يقف أمام الطغاة ويدمّر متاريسهم البشرية المؤلفة من الجاهلين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة".

لم تؤثر الإصابة على طه الذي ظلّ يبحث دائماً عن وسائل تعليمية متطوّرة تساعده في مواصلة رسالته، لكنها لم تكن متوفرة، وهو اليوم على الرغم من إصابته، يعيش حياته بين طلاب المدرسة، فهو يُدرّس مادّتَي العلوم والاجتماعيات لصفوف الرابع والخامس والسادس الأساسي، مستخدماً يده اليسرى للكتابة على السبورة، وبعد الظهر يجلس مع بعض الشبّان. وقد اختار طه السكن في أحد فصول المدرسة، لأنّ منزله يبعد قرابة كيلومتر واحد، والطريق وعرة، ولا يملك وسيلة نقل.

وعلى الرغم من الظروف المعيشية الصعبة التي يعانيها المدرّسون في اليمن، إلّا أنّ ذلك لم ينلْ من عزيمته، بغض النظر عن انقطاع الرواتب أو تأخرها لأشهر، فضلاً عن أن راتب المُدرّس لا يتجاوز 75 دولاراً أميركياً في حده الأقصى.

يشعر طه العربي أن التدريس التزامٌ أخلاقيّ وقيميّ تجاه نفسه ومجتمعه ووطنه، ويقول: "صحيح أن انقطاع الرواتب وغلاء المعيشة يؤثران على العملية التعليمية وأداء المعلم وحياته اليومية، لكن توقف التعليم يؤثر على الوطن والمواطن ومستقبل البلاد".

وعن تجربته الملهمة ورسالته في الحياة، يقول طه: "لا وجود لليأس مع الحياة، وقد تمكّنت بقوة إيماني وعزيمتي من القيام بالكثير من الأعمال والمهام. أما رسالتي للجميع، وخصوصاً لفئة الشباب وذوي الإعاقات، ألّا يستسلموا وألّا يسمحوا للإحباط أن يخترق نفوسهم وقلوبهم، فاليأس والإحباط هما الإعاقة الحقيقية، ومن الضروري أن نتحدّى الواقع بالأمل والحركة والفهم والوعي الحقيقي، كي ننتصر لأنفسنا وللآخرين".