آخر تحديث :الأحد-14 ديسمبر 2025-07:00م
أخبار وتقارير

تحليل سياسي : حضرموت والمهرة : مأزق الخيارات وتضارب الحسابات لكل الأطراف

الأحد - 14 ديسمبر 2025 - 12:25 م بتوقيت عدن
تحليل سياسي : حضرموت والمهرة : مأزق الخيارات وتضارب الحسابات لكل الأطراف
القسم السياسي صحيفة عدن الغد :

تشهد محافظتا حضرموت والمهرة في الأسابيع الأخيرة تطورات متسارعة أعادت رسم المشهد السياسي والعسكري في الشرق اليمني، ووضعت جميع الأطراف الفاعلة أمام اختبارات صعبة، تتجاوز حدود المناورة التكتيكية إلى أسئلة المصير والاستراتيجية. ما يجري لم يعد مجرد تحركات ميدانية أو إعادة تموضع قوات، بل بات تعبيرًا عن أزمة عميقة في بنية الدولة، وتناقضات الشرعية، وتباين أولويات التحالف، وتضارب المشاريع المحلية، في لحظة إقليمية ودولية شديدة الحساسية.


حضرموت، بثقلها الجغرافي والاقتصادي والسكاني، والمهرة، بخصوصيتها الحدودية وتعقيداتها القبلية والإقليمية، تحوّلتا إلى ساحة اختبار حقيقي: هل يمكن فرض وقائع جديدة بالقوة؟ أم أن أي تغيير لا بد أن يمر عبر تسويات معقدة؟ وهل بات الجميع في مأزق حقيقي بلا مخارج سهلة؟


المجلس الانتقالي الجنوبي دخل هذه المرحلة وهو يشعر بأنه في ذروة قوته الميدانية، بعد تمدد نفوذه العسكري في محافظات عدة، مستندًا إلى خطاب “استكمال السيطرة” و”تصحيح مسار الشراكة”. من منظور المجلس، فإن حضرموت والمهرة ليستا مجرد محافظتين، بل تمثلان العمق الاستراتيجي لأي مشروع سياسي جنوبي، سواء بصيغته القصوى أو المرحلية. السيطرة على الأرض، من وجهة نظره، تمنحه أوراق تفاوض لا يمكن تجاهلها، وتخرجه من مربع الشريك الضعيف في معادلة السلطة.


لكن هذا التمدد يضع المجلس أمام معضلة مركبة. فحضرموت ليست ساحة خالية، بل فضاء متنوع سياسيًا وقبليًا واقتصاديًا، وفيها قوى محلية تخشى أن تتحول المحافظة إلى ساحة إدارة مركزية جديدة، ولو بلباس مختلف. كما أن المهرة، بحساسيتها الحدودية وارتباطاتها الإقليمية، لا تقبل بسهولة منطق الحسم الأمني. أي خطأ في إدارة هذا التنوع قد يحول المكاسب العسكرية إلى عبء سياسي وأمني طويل الأمد.


خيارات المجلس الانتقالي يمكن تلخيصها في ثلاثة مسارات رئيسية. الأول هو تثبيت الواقع الميداني ثم الذهاب إلى تفاوض سياسي، سواء مع الحكومة أو برعاية التحالف، بهدف انتزاع ترتيبات جديدة تعزز نفوذه الإداري والأمني والاقتصادي. هذا المسار يمنحه فرصة ترجمة القوة إلى مكاسب سياسية، لكنه يتطلب ضبط الخطاب، وتقديم ضمانات حقيقية للمكونات المحلية في حضرموت والمهرة، وتجنب الانزلاق إلى إدارة أمنية صلبة تثير ردود فعل معاكسة.


المسار الثاني هو رفع سقف الخطاب السياسي، والدفع نحو خطوات أحادية كبرى، بما فيها فرض صيغ سيادية أو إدارية متقدمة. هذا الخيار قد يرضي القاعدة المتحمسة، لكنه يحمل مخاطر كبيرة، لأنه يصطدم مباشرة بالموقف الدولي الرافض لأي تغييرات أحادية، ويضع المجلس في مواجهة ضغوط سياسية واقتصادية قد تعيد خلط الأوراق ضده.


أما المسار الثالث، وهو الأكثر براغماتية، فيتمثل في تهدئة تكتيكية مدروسة، تقبل بإعادة انتشار جزئية أو ترتيبات مشتركة في بعض النقاط الحساسة، مقابل الحفاظ على نفوذ فعلي في مناطق أخرى. هذا الخيار قد يُنظر إليه داخليًا كتراجع، لكنه قد يكون المخرج الأقل كلفة في مرحلة تتكاثر فيها الضغوط.


في المقابل، تقف الحكومة الشرعية في أضعف حالاتها. فهي من ناحية ترفع شعار السيادة ووحدة القرار العسكري، لكنها من ناحية أخرى تفتقر إلى الأدوات الفعلية لفرض هذا الشعار على الأرض. حضرموت والمهرة تمثلان للحكومة آخر ما تبقى من صورة “الدولة الجامعة”، وأي خسارة إضافية فيهما تعني عمليًا تقويض ما تبقى من شرعيتها الجغرافية والسياسية.


خيارات الحكومة محدودة ومؤلمة في آن واحد. الخيار الأول هو التصعيد السياسي والإعلامي، وربما العسكري، لمحاولة استعادة زمام المبادرة. لكن هذا الخيار يصطدم بواقع ضعف الإمكانات، وتعدد مراكز القرار، وخطر الانزلاق إلى صدام داخلي يفاقم الانقسام ويخدم خصومها، وعلى رأسهم جماعة الحوثي.


الخيار الثاني هو القبول بتسويات مؤقتة، تعترف ضمنيًا بوقائع القوة مقابل الحفاظ على الحد الأدنى من الحضور الرمزي والمؤسسي. هذا المسار قد يضمن بقاء الحكومة في المشهد، لكنه يكرس صورتها كسلطة عاجزة، تعيش على الهامش وتدير الأزمات بدل حلها.


أما الخيار الثالث، وهو الأصعب سياسيًا، فيتمثل في إعادة تعريف دور الحكومة نفسها، والقبول بتحول عميق في شكل الدولة، نحو صيغ لامركزية واسعة أو فيدرالية حقيقية. هذا الخيار يتطلب شجاعة سياسية وإجماعًا وطنيًا غير متوفر حاليًا، لكنه قد يكون الطريق الوحيد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من فكرة الدولة.


التحالف العربي، وتحديدًا السعودية والإمارات، يجد نفسه في قلب هذا التعقيد. فمن جهة، يسعى إلى منع انفجار صراع داخلي في المناطق الخاضعة للشرعية، ومن جهة أخرى يحاول الحفاظ على توازن دقيق يمنع خصومه الإقليميين من استثمار الفوضى. التحركات الأخيرة، بما فيها إرسال فرق عسكرية وسياسية إلى العاصمة المؤقتة عدن، تعكس قلق التحالف من خروج الأمور عن السيطرة.


خيارات التحالف بدورها ليست سهلة. الاستمرار في إدارة الأزمة بسياسة “الاحتواء” و”خفض التصعيد” قد يمنع الانفجار، لكنه لا يقدم حلًا جذريًا. فرض تسوية سياسية شاملة بين المجلس الانتقالي والحكومة قد يكون مطلوبًا، لكنه يصطدم بانعدام الثقة وتناقض الأجندات. أما ترك الأمور تتطور وفق منطق القوة، فيحمل خطر تحوّل حضرموت والمهرة إلى ساحة صراع مفتوح، بما لذلك من تداعيات إقليمية ودولية.


في المحصلة، يبدو أن الجميع في مأزق حقيقي. المجلس الانتقالي قوي ميدانيًا لكنه محاصر سياسيًا. الحكومة شرعية اسميًا لكنها ضعيفة فعليًا. والتحالف يمتلك النفوذ لكنه يفتقر إلى رؤية حاسمة لمستقبل اليمن. حضرموت والمهرة ليستا مجرد مسرح لهذا الصراع، بل مرآة تعكس فشل النخب اليمنية في إنتاج عقد سياسي جديد، قادر على استيعاب التنوع وتوزيع السلطة والثروة بعدالة.


ما لم يتم التعامل مع هذه التطورات بعقلانية سياسية، بعيدًا عن منطق الغلبة والإقصاء، فإن الشرق اليمني مرشح لأن يتحول من فرصة للاستقرار إلى بؤرة توتر طويلة الأمد. والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هل تدرك الأطراف المختلفة أن إدارة المأزق ليست حلًا، وأن تأجيل الاستحقاقات الكبرى لن يؤدي إلا إلى انفجار أشد قسوة؟


غرفة الأخبار / عدن الغد