كتب/د. الخضر عبدالله :
على زاوية الشارعٍ الخلفي لسوق الخضار والفواكة والأسماك بمدينة الشيخ عثمان بمحافظة عدن. حيث تتقاطع خطوات الناس وتختلط أصوات الباعة،
وتحت مظلةٍ مهترئةٍ تقيه شمس الظهيرة أكثر مما تقيه المطر، يجلس فتحي كدّاف
على كرسيّه المتحرك منذ ساعات الصباح الأولى. أمامه كرتون بسيط فرش عليه بضاعته المتواضعة: أكياس من بهارات الطعام.
قد يمرّ المارة من أمامه بسرعة، بعضهم يشتري، وآخرون يكتفون بابتسامةٍ خفيفة أو نظرة شفقةٍ سريعة، قد لا تثير هذه البضاعة انتباه بعض المارّة، لكنها بالنسبة لفتحي مصدر رزقٍ وكرامة، وسندٌ يعيله ويعيل أسرته الصغيرة.
لكن من يقف ليتحدث معه يدرك أنه أمام رجلٍ جعل من الإعاقة وقوداً للحياة، لا سبباً للانكسار.
فتحي لم يرضخ لإعاقته يوماً، رغم أنها فرضت عليه واقعاً قاسياً منذ سنوات طويلة. يقول وهو يزيح بيده قطعة نايلون تغطي بضاعته من الغبار"أنا مش موظف حكومي، وما عندي راتب آخر الشهر. أشتغل على باب الله، من الصبح بدري إلى المساء، والله ما مليت يوم ولا كلّيت. الشغل الحلال بركة، والرزق على الله."
فتحي لم يفقد قدرته على المشي بسبب حادثٍ أو مرضٍ طارئ، بل وُلِد هكذا — بإعاقةٍ دائمة في قدميه جعلته يعتمد على كرسي متحرك منذ طفولته. عاش طفولةً مختلفة عن أقرانه، مليئة بالتحدي والدموع، لكنه لم يسمح لتلك الإعاقة أن تُطفئ حلمه بأن يعيش بكرامة، ويكسب رزقه من عرق جبينه مثل أي رجلٍ سويّ. بحسب قوله
ما أعرف المشي في حياتي
يقول فتحي وهو ينظر إلى كرسيه الذي صار رفيق عمره:"أنا ما عرفت المشي في
حياتي، لكني تعلمت من بدري كيف أوقف بالإرادة. الجسد يمكن يكون عاجز، لكن الروح لو قوية، ما في شيء يوقفها."
الكرسي ليس قيدًا
قد يراه الناس جالسًا على كرسيه فيظنّون أنه مقيد الحركة، لكنهم لو نظروا إلى عينيه لعرفوا أنه أكثر حريةً منهم. فتحي لا يرى في كرسيه عجزًا، بل وسيلةً توصله إلى رزقه، ووسيلةً ليحيا بكرامةيقول مبتسما وقد ظهرت ثناياه "الكرسي هذا صاحبي، مش عدوي. هو الذي يحملني من أجل أشتغل وأعيش. المهم مش إنك تمشي برجليك، المهم تمشي في طريقك بإصرار."
كثيرون في السوق يعرفونه، وبعضهم يعتبره قدوة في الرزق والرضا. بائع مجاور له يقول: "فتحي يأتي إلى كل يوم قبلنا، و لا يترك مكانه إلا بعدنا. عمري ما شفته زعلان أو متضايق. لو كل واحد عنده عزيمته، ما كان حد جلس في بيته يشتكي."
الكرامة قبل كل شيء
فتحي يعيش في بيتٍ صغيرة مع زوجته في منطقة القاهرة بالمنصورة، دخله لا يتجاوز ما يسدّ رمق أسرته، لكنه يشعر بالرضا. فلكل لقمةٍ على مائدته حكاية تعب، ولكل ابتسامةٍ في وجه أسرته معنى نضال.
ورغم بساطة عمله، إلا أنه يحظى باحترام الناس من حوله. بعضهم يساعده بصمت، دون أن يجرحوا كبرياءه. وهو يقدّر تلك المواقف.
"ما أحب أحس إني عبء على أحد"، يقولها بثقةٍ يشوبها فخر. “ربنا كريم، وأنا راضي بما قسم لي.”
يومه الطويل بين الشمس والغبار
تحت حرّ الشمس في الصيف أو برد الشتاء القارس، يظل فتحي في مكانه من الصباح حتى المساء. عيناه تتابعان المارّة، وابتسامته لا تفارقه حتى في أكثر الأيام قسوة. أحياناً يكتفي في يومه ببيع القليل، وأحياناً يعود محمّلاً ببعض البضاعة التي لم تبع، لكنه يعود دائماً بالقناعة ذاتها.
يقول وهو ينظر إلى بضاعته البسيطة: "كل ما أبيع كيس من البهارات ، أحمد ربنا. الرزق مش بالكثرة، الرزق بالبركة. والله ما حسّيت يوم إني محتاج أكثر مما عندي."
في المساء، يجمع بضاعته. يضعها في كيسٍ كبير، ويحملها معه إلى بيته المتواضع، وهناك تستقبله أسرته بابتسامةٍ تعبّر عن الامتنان، وهو يضحك، رغم التعب الذي يثقل جسده.
رسالة فتحي للعالم
قصة فتحي كدّاف ليست مجرد حكاية رجلٍ معاقٍ يبيع على الرصيف، بل هي درسٌ في العزيمة والرضا والكرامة الإنسانية، و يريد فقط أن يعيش بعرق جبينه، وأن يعلّم الناس أن الكفاح هو الطريق الوحيد للحياة الكريمة.
يقول وهو يرفع رأسه نحو السماء: "أنا راضي بحالي، الحمد لله على كل حال. يمكن ما عندي محل ولا دخل ثابت، بس عندي رضا، والرضا أغلى من كل مال."
ختاما
في زمنٍ تتكاثر فيه قصص البطالة والتسوّل، يظل فتحي كدّاف نموذجاً نادراً لرجلٍ جعل من إعاقته منطلقاً للإرادة لا ذريعةً للعجز. يجلس على كرسيّه المتحرك، لكن روحه واقفة شامخة لا تنحني، يبيع على باب الله، ويعلّمنا أن اليد التي تعمل، وإن كانت ترتكز على كرسيٍّ، تبقى هي اليد العليا دائمًا.