كتب/ د. الخضر عبدالله:
"كيف أحتفل بيومي، وأنا أعجز عن شراء وجبة فطور لابنتي في المدرسة؟"
بهذه الكلمات تختصر المعلمة "فاطمة" شعورها المتناقض في يوم من المفترض أن يكون يومًا للتكريم والامتنان. لكن الواقع يروي حكاية أخرى، أقرب إلى الحزن من الفخر، حيث يدخل عيد المعلم هذا العام في بلادنا وسط أزمة إنسانية يعيشها آلاف المعلمين والمعلمات الذين لم يتسلموا رواتبهم منذ أكثر من أربعة أشهر.
عطاء مستمر بلا مقابل
في كل صباح، يقف المعلمون أمام طلابهم، يشرحون، يوجهون، ويزرعون بذور الأمل، رغم أن جيوبهم خاوية. بعضهم يأتي إلى المدرسة سيرًا على الأقدام، وآخرون يستدينون ثمن المواصلات، بينما يضطر كثيرون للعمل بعد الدوام في مهن متواضعة لتأمين الحد الأدنى من لقمة العيش.
تقول المعلمة "فاطمة"، وهي معلمة لغة عربية منذ 18 عامًا:
"لم يعد يهمني ما إذا كان اليوم عيد المعلم أو لا، أنا الآن مشغولة فقط بكيفية دفع إيجار منزلي، وكيف أشتري الدواء لأبي المريض، لقد أصبح التدريس فعل صبر وليس مهنة".
وتضيف بأسى: "في الفصل أحرص على أن أُخفي تعبي، فأنا لا أريد أن يشعر طلابي أنني مهزومة، لكن الحقيقة أنني مرهقة... جدًا."
تجاهل رسمي وتضامن شعبي خجول
منذ أربعة أشهر، لم تصدر أي جهة رسمية بيانًا واضحًا يشرح أسباب تأخر صرف الرواتب، ولا جدولا زمنيًا يطمئن المعلمين والمعلمات. وبدلا من التقدير، يشعر كثيرون منهم بأنهم يُعاقَبون على التزامهم وولائهم للمهنة.
المعلم "سامي"، وهو مدرس رياضيات في مدرسة ثانوية حكومية، يعبر عن إحباطه قائلا:"نحن لسنا هواة تطوع، نحن أصحاب مهنة، نؤدي واجبًا يوميًا تجاه الوطن وأبنائه، فمن غير المنصف أن نستمر في العمل بينما نُحرم من أبسط حقوقنا: الراتب."
ويضيف: "نحب طلابنا، نعم. ونحب التعليم، نعم. ولكن الحب لا يملأ البطون الجوعى، ولا يلبس ثيابا ، ولا يدفع قيمة المواصلات أو فاتورة الماء و الكهرباء."
أعباء نفسية تتضاعف
يُجمع مختصون تربويون ونفسيون على أن غياب الأمان المادي ينعكس سلبًا على أداء المعلم، ومن ثم على جودة العملية التعليمية.
الاكاديمي التربوي الدكتور محمد حسن "يقول:"
"المعلم الذي يأتي إلى الصف وهو مشغول الذهن بكيفية تدبير طعام الغداء لأبنائه، لن يستطيع أن يعطي أفضل ما لديه. يجب أن ندرك أن التعليم يبدأ من احترام المعلم وضمان كرامته المادية والمعنوية."
ويتابع: "إذا استمر هذا الوضع، فإننا أمام موجة من التسرب المهني، حيث سيضطر كثير من المعلمين إلى ترك التعليم نهائيًا بحثًا عن لقمة العيش في أماكن أخرى."
قصص من المعاناة اليومية
في حديثنا مع مجموعة من المعلمين والمعلمات في عدد من المحافظات (عدن ، أبين، لحج) تكررت القصة ذاتها باختلاف التفاصيل: الاستدانة، بيع الممتلكات الشخصية، العمل في مهن بديلة، والقلق المستمر من الغد.
المعلم "إيمن"، أب لثلاثة أطفال، قال إنه بات يفكر جديًا في ترك التعليم، رغم أنه كان من محب مهنة التعليم بحسب تعبيره.
ويفخر بمسيرته التربوية:
يضيف ويقول "أشعر بالإهانة، ليس لأنني أعمل بدون راتب فقط، بل لأن أحدًا لا يعترف حتى بأننا نعاني. لا أحد يقول لنا حتى كلمة شكر."
أما المعلم "فهمي"، فقد اضطر للعمل كسائق أجرة بعد الظهر لتأمين قوت أسرته، ويقول:
"أُدرِّس الرياضيات صباحًا، وأحسب النقلة بعد الظهر... الفرق فقط أن الراكب يدفع، بينما الوزارة لا تفعل."
مطالب واضحة
المعلمون لا يطلبون المستحيل. كل ما يطالبون به هو صرف مستحقاتهم المالية، واحترام دورهم التربوي، وتقدير جهودهم، خاصة في هذا اليوم الذي خُصص عالميًا للاحتفاء بالمعلمين وتكريمهم.
ومن أبرز المطالب التي وردت في مقابلاتنا مع عدد من المعلمين:
1. صرف الرواتب المتأخرة فورًا، دون تأخير إضافي.
2. وضع آلية واضحة لضمان انتظام الرواتب مستقبلا.
3. تحسين بيئة العمل المدرسية، وتأهيل المدارس.
4. إشراك المعلمين في القرارات التي تمسهم.
5. تخصيص يوم المعلم لتكريم حقيقي وليس احتفالا شكليًا.
ما الذي نحتفل به؟
في مثل هذا اليوم من كل عام، تمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بالكلمات الجميلة عن "الشمعة التي تحترق لتضيء الطريق"، وعن "المعلم صانع الأجيال"، لكن الواقع يُظهر فجوة هائلة بين هذه الكلمات والحقائق الميدانية.
الكرامة قبل التهاني
يُقال إن المعلم هو العمود الفقري لأي نهضة حقيقية، وأن الأمم تُبنى في الفصول الدراسية قبل أن تُبنى في مصانع السلاح أو الأبراج العالية. لكن كيف يمكن لمعلم مسحوق، منهك، غير قادر على تأمين قوت يومه، أن يصنع جيلا قويًا وواعيًا؟
في عيد المعلم هذا العام، لا نريد مزيدًا من القصائد والخطب والبوستات المنمقة.
نريد أن ننظر في عيون هؤلاء المعلمين ونقول لهم: "نقدّركم فعلا... ولهذا سنصرف رواتبكم اليوم، لا غدًا."