فليك يهدي البرسا مجدًا من نوع آخر
لم تكن ليلة برشلونة أمام باريس سان جيرمان في دوري أبطال أوروبا ليلة فرح لعشاق "البلوجرانا". فالهزيمة بهدفين مقابل هدف في موقعة ثقيلة تركت جرحًا في قلوب الجماهير التي كانت تأمل في عودة مظفرة تعزز مسيرة الفريق القارية. لكن وسط ظلال الخيبة، انبثق شعاع أمل بإنجاز تاريخي غير مسبوق، إذ نجح أبناء المدرب الألماني هانز فليك في كتابة رقم قياسي جديد سيبقى محفورًا في ذاكرة النادي.
فبرغم السقوط في النتيجة، حقق برشلونة إنجازًا تمثل في الوصول إلى المباراة رقم (45) على التوالي التي يهز فيها شباك منافسيه. هذا السجل الاستثنائي كسر رقمًا ظل صامدًا لعقود، يعود إلى عام 1944 حين سجل الفريق في (44) مباراة متتالية. هدف فيران توريس في شباك باريس لم يكن كافيًا لتجنب الخسارة، لكنه كان كافيًا لإهداء برشلونة لحظة تاريخية توازي في قيمتها أهمية الألقاب.
فلسفة فليك.. الهجوم أولًا
منذ أن تسلم هانز فليك قيادة الجهاز الفني، بدا واضحًا أن فلسفته تقوم على الهجوم المكثف والضغط العالي. المدرب الألماني الذي عرف عنه الاعتماد على الكثافة الهجومية، نقل تلك المدرسة إلى كتالونيا عبر توظيف "ثلاثي هجومي" مدعوم بلاعب وسط متقدم، لتتشكل منظومة هجومية مرنة قادرة على تفكيك خطوط الخصوم.
هذه الاستراتيجية لم تثمر فقط أهدافًا عديدة، بل منحت الفريق تنوعًا في مصادر التهديف. فبرشلونة لم يعد يعتمد على نجم واحد يصنع الفارق، بل توزعت الأهداف على 11 لاعبًا مختلفًا منذ بداية الموسم. هذا التنوع يعكس روح الجماعة التي زرعها فليك، حيث يتحرك الفريق كوحدة هجومية متكاملة.
إضافة إلى ذلك، ظهر تطور ملحوظ في استغلال الكرات الثابتة. فالفريق الذي عانى في السنوات الأخيرة من ضعف في الركلات الركنية والكرات العرضية، صار اليوم يمتلك سلاحًا إضافيًا يهدد به أي منافس.
من "لويس كومبانيس" إلى ليلة باريس
الرقم القياسي لم يأتِ صدفة. فمنذ الخسارة المفاجئة أمام ليجانيس بهدف دون رد في كانون الأول/ديسمبر 2024 على ملعب "لويس كومبانيس"، لم يعرف برشلونة طريق الصيام عن التسجيل. أيًا كان الخصم أو البطولة، سواء دوري محلي أو أبطال أوروبا أو مباريات ودية، فإن شباك المنافس لم تسلم من هجمات الكتالونيين.
هذا الثبات التهديفي لم يكن مجرد تحسن مؤقت، بل سلسلة ممتدة أثبتت أن فليك نجح في إعادة الهوية الهجومية التي ارتبطت بتاريخ برشلونة الذهبي، حين كان الفريق قادرًا على التسجيل من أي موقف وعلى أي ملعب.
أوروبا تحت المجهر
الأرقام اللافتة لم تتوقف عند البطولات المحلية. ففي دوري أبطال أوروبا، البطولة التي تقيس قوة الكبار، واصل برشلونة التسجيل في جميع المباريات تحت قيادة فليك. تلك الفاعلية أمام أقوى دفاعات القارة تذكر الجماهير بسنوات الهيمنة، حين كان الفريق يحول كل فرصة تقريبًا إلى هدف.
لكن الحقيقة التي لا تغيب عن عشاق النادي هي أنّ الأرقام وحدها لا تكفي. الجماهير الكتالونية اعتادت أن تقرن المتعة بالألقاب، وتعلم أن الهدف النهائي هو العودة إلى منصة التتويج الأوروبية التي غاب عنها الفريق منذ 2015.
مقارنة مع ريال مدريد
ورغم قيمة الرقم الجديد، فإن برشلونة ما زال بعيدًا عن الرقم القياسي الإسباني الذي ينفرد به غريمه ريال مدريد. ففي فترة زين الدين زيدان الذهبية، بين 2016 و2018، نجح الملكي في التسجيل في (73) مباراة متتالية، وهو رقم اقترن بأكثر فترات الفريق نجاحًا حين توج بثلاثة ألقاب متتالية لدوري الأبطال.
كان ذلك الإنجاز مرتبطًا بقوة ثلاثي هجومي لا يُنسى: جاريث بيل، كريم بنزيما، وكريستيانو رونالدو، الذين دوخوا دفاعات أوروبا وجعلوا مدريد لا يخرج من أي مباراة صفر اليدين.
أما عالميًا، فلا يزال الرقم القياسي بعيد المنال، إذ يحتفظ به ريفر بليت الأرجنتيني بـ(93) مباراة متتالية سجل فيها بين 1936 و1939. إنجاز تاريخي امتد لثلاث سنوات كاملة، ولم يتمكن أي نادٍ حول العالم من تجاوزه حتى الآن، ليظل شاهدًا على مجد كروي لاتيني خالد.
بين الأرقام والطموحات
برشلونة اليوم يقف على مفترق طرق. من جهة، يسجل إنجازات فردية وجماعية على صعيد الأرقام، تؤكد عودة الفاعلية الهجومية وتطور المنظومة تحت قيادة فليك. ومن جهة أخرى، لا تزال التحديات الكبرى ماثلة أمامه: كيف يحول هذه الأرقام إلى بطولات؟ وكيف يجمع بين الإبداع الهجومي والصلابة الدفاعية في المباريات الحاسمة؟
الهزيمة أمام باريس سان جيرمان جاءت بمثابة جرس إنذار، لكنها لم تمحُ حقيقة أنّ مشروع فليك يسير بخطوات واثقة في إعادة صياغة هوية الفريق. الأيام المقبلة وحدها ستجيب: هل سيكتفي برشلونة بمتعة التسجيل وأرقام التهديف، أم يترجم ذلك إلى عودة طال انتظارها إلى منصات التتويج القارية؟