آخر تحديث :الخميس-02 أكتوبر 2025-12:36ص
أدب وثقافة

أحمد السايح.. شاعرٌ نَظمَ ثورة، ومُناضلٌ كَتَبَ مَجدًا

الأربعاء - 01 أكتوبر 2025 - 11:05 م بتوقيت عدن
أحمد السايح.. شاعرٌ نَظمَ ثورة، ومُناضلٌ كَتَبَ مَجدًا
تونس (عدن الغد) مجيب الرحمن الوصابي:

في محرابِ المقاومة التونسية، وحيثُ تتشابكُ جذورُ الأرضِ بعبقِ الكرامة، يبرزُ اسمٌ لم يكن مجرّد شاعر، بل كان سيفاً و وتراً؛ إنه أحمد بن علي السايح أولاد خلف الله المهذبي، الذي نَزَفَ قصيدهُ دماً وزيتوناً في سبيلِ الحرية. هو سيرةٌ عابقةٌ ببطولات "الفلاّقة" وصوتٌ أصيلٌ لم يُبدل قضيته، ظلّ يرتلُ حكاياتِ الجبالِ والمعاركِ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ وروحٍ تونسيةٍ متوثبة.


ميلادٌ على حافةِ الزمن

ولد أحمد السايح في 29 أفريل 1929 بمنطقة هداج التابعة لمعتمدية المزّونة، وكأنما قدرٌ أراده أن يرى النور حيثُ تبدأُ الحكايةُ وتشتدُّ العزيمة. كانت طفولتهُ خاضعةً لمذاقِ القسوة؛ فبعد خمس سنواتٍ قضاها في "الكُتّاب" يتعلّمُ أولَ حروفِ النور، أجبرته رياحُ الحرب العالمية الثانية العاتية على الانقطاع. وعندما أُتيحت له فرصةُ الالتحاقِ بالمدرسة الابتدائية في المزّونة سنة 1946، لم يُمهلهُ سوى عامٍ واحدٍ ليرتشفَ من نبعها، فقد كانت الظروفُ الماديةُ القاسيةُ أقوى من حنينهِ للعلم.


ولكن، لروحِ الشاعرِ دروبٌ أخرى. فقد كان لوالده، الشاعر علي السّايح، الفضلُ في غرسِ أولِ بذرةٍ للشعرِ والمقاومة في وجدانه. رافقَ الوالدَ، وحفظَ عنه القصائد، وأشعلَ في قلبهِ نارَ الإغرامِ بالكلمةِ الموزونةِ والموقفِ الصلب، لتبدأ مسيرتهُ الشعريةُ الحقيقيةُ عام 1951، مُتخذةً من الواقعِ المُعاشِ أصدقَ وأعمقَ مصدرٍ للإلهام.


القائد والشاعر.. في صفوفِ "الفلاّقة"

لم يكن الشاعرُ أحمد السايح يكتفي بنظمِ الشعرِ عن الثورة، بل كان جزءاً من لهيبِها. التحقَ ليُعزّزَ صفوفَ الثوارِ التونسيين ضمن مجموعة المهاذبة الشجاعة بقيادةِ القائدِ الهمام محمد بالنّيفر المهذبي. ولم يكن دورهُ سلبياً، فقد كُلّفَ بمهمةٍ مصيريةٍ: تدريب المتطوعين، أو ما عُرفوا تاريخياً بـ "الفلاّقة".


لقد كان شاهدَ عيانٍ وبطلَ ميدانٍ في آنٍ واحد. حضرَ جلّ المعارك التي خاضتها المقاومة في تلك الجبالِ التي تحتضنُ الأسرارَ؛ في جبال هدّاج و بوهدمة بمنطقة المزونة، وفي الخير بمنطقة أولاد منصور. ولعلَّ أكثرَ هذه المشاهدِ رسوخاً في ذاكرتِه ووجدانِه كانت معركة جبل هدّاج بوهدمة الأسطورية في 13 سبتمبر 1954، التي أفردَ لها قصيدهُ الملحميَّ، ليجعلَ من الحبرِ أرشيفاً حياً لا يموت.


قصيدةٌ بدمِ الشهداء

إنّ الثورةَ في أدبِ أحمد السايح ليست حدثاً عابراً، بل هي ملحمةٌ متكاملةٌ رسمَ فيها مسارَ النضالِ منذُ انطلاقتهِ سنة 1952 وصولاً إلى ذروةِ معركةِ شهداءِ سبتمبر 1954. إنها وثيقةٌ شعريةٌ تُؤرّخُ للفداء، وها هو ذا جزءٌ من قلبِ الشاعر، ينبضُ بذكرى تلك اللحظاتِ الفاصلة، ليظلَّ صوتهُ مدوياً، شاهداً على عظمةِ التضحية.


قصيد الثورة ريتْ صارِتْ عَرْكَة مَخَيَبْهــــا لا مِــنْ يَقْرَبْهـــــــا عالي بوهِدْمَة مَضْرَبْـــــــــــها القَـــوّادْ سْبَبْهــــــا القُوَّة لِلثّوّارْ جْلَبْـــــــــــــــــــها اللْيُطْنَة مْراقِبْهــــا النّارْ شَعْلِتْ زادِتْ في حَطَبْهــا تونــسْ مَصْعَبهـــا حَتّى الأحْجارْ تْذَوِّبْهــــــــــــــا ريتــو الْجَرَّبْهــــــا العَسْكَرْ لّيـــــذاقْ مْشاهِبْهـــــا الكَرْتوشْ رْعَبْهــا بِالنّيفَـرْ قـالْ انْتَوِّبْهـــــــــــــــا الموتْ مايِحْسِبْهــا و معاهْ أبْطــالْ مْدَرِّبْهــــــــــــا و يوسِفْ طالِبْهـــا الدّنْيا على العَسْكَرْ يِقْلِبْهــــــــا إيــدَهْ مَصْوَبْهــــــــا بِسْلاحَه الـرّوسْ يِخَرِّبْهــــــــا الدَّعْكَة ومَنْشَبْهــــا هَدّاجْ و ضيقْ مْسارِبْهـــــــــا حْذا قُـرْب عَرَبهـــا اللّيلَة ظَلْمَة مِنْ مِغْرِبْهـــــــــا رَبّـي كَتَّبْهـــــــــــا السَّبْعَة موتِتْهُمْ مَقْــــرَبْهـــــا القِصَّـة لْجايِبْهــا من النّاس الشّاهدينْ عَطَبْها ريـتْ مْكاسِبْهــــا مِيّاتْ العَشْرَة تْقَرِّبْهـــــــا الخُطَّة مْرَتِّبْهــــــــا بالنّيفَرْ حالِفْ يِحْرِبْهـــــــــــــا يِقْـدي مْشاهِبْــــــها العَسْكَرْ لِلْكِشْلَة يِطَبِّبْها اللّي عَرَفتْ عَدَدْهُمْ ثابْتينْ مْنِ الأَعْداء ماتوا سَبعينْ


القول يواتي على الشجْعانْ بانْ اللّي بانْ نهارْ اللّي صار المَيدانْ كْثِرْ الدّخّانْ بْدي الصّادي يَضْبَحْ مَلْيانْ إن شاء الله موعان كُلْ ثايِرْ قَلْبَهْ مَلْيان فالحْ واصْيانْ مثَبّتْ روحَه في الميشان حَبَّهْ مَكّانْ اللّي يِلُطَّهْ يُقْعُدْ سَكْرانْ بَطَلْ الفًرسان بالنّيفَرْ هو والشّجْعانْ حَيَّرْ لَقْرانْ ماذا كَسَّر مِنْ قُبْطانْ للوَطْن يزيـــــــــــــنْ دستوري من الدّستوريين


القولْ يِواتي عَلى َلسْيادْ في كل بْلادْ قَطّع جَدّاد القَوّادْ هالفيهم شادْ بالنّيفرْ رايٍسْ لَولْاد يُضْربْ صَيّاد ضَرْبَه يِطّيَّح مِنْ لَبْعادْ عمِلْنا اتّحاد عَدونا هاهو حَبِلَه باد ضاقْ العدّادْ وكُلْ ما يَعْمَلّكْ ما فادْ تَوْ لِهْ سنين كِ نْغرنا قالو مْروحي


عطاءٌ يتجاوزُ السلاح

لم تتوقف مسيرةُ أحمد السايح عند نهايةِ المعارك، بل استمرت لتُضيءَ دروبَ الثقافةِ والفن. بعد نيلِ الاستقلالِ، كان من أوائلِ من كُرّموا بتقلدِ وسام الاستقلال و الوسام الثقافي، اعترافاً بدورهِ المزدوج كفارسٍ الكلمةِ والبندقية.


في مطلعِ السبعينات، تولى رئاسةَ اللجنة الثقافية المحلية بالمزونة، مُحوّلاً الطاقةَ الثوريةَ إلى طاقةٍ إبداعية. فقد كان مُؤسّساً حقيقياً وملهماً، حيثُ ساهمَ في تأسيسِ النواةِ الأولى لـ فرقة الفنون الشعبية، و مجموعة المدائح والأذكار، و فرقة المسرح، ليُصبحَ جسراً يربطُ بينَ ماضي المقاومةِ ومستقبلِ الهويةِ الثقافيةِ التونسية.


أحمد السايح أولاد خلف الله المهذبي هو اسمٌ مرسومٌ على صفحاتِ تونسَ بحروفٍ من نور، شاعرٌ لم يقتلهُ الرصاصُ بل أيقظتهُ الكرامة، مُناضلٌ لم يُخفِضْ صوتَهُ بل جعلهُ قنطرةً تَهتفُ بالحرية. سيبقى صوتُهُ الشعريُّ الدافئُ والمزلزلُ في آنٍ واحد، شاهداً على أنَّ الوفاءَ للوطنِ لا يموت.