آخر تحديث :السبت-20 سبتمبر 2025-11:40ص
أخبار وتقارير

تحليل سياسي : من يحكم تعز؟.. قراءة معمقة في خرائط القوة والنفوذ داخل مدينة محاصرة

السبت - 20 سبتمبر 2025 - 09:34 ص بتوقيت عدن
تحليل سياسي : من يحكم تعز؟.. قراءة معمقة في خرائط القوة والنفوذ داخل مدينة محاصرة
عدن/ القسم السياسي – صحيفة عدن الغد

السؤال «من يحكم تعز؟» ليس مجرد طرح أكاديمي أو سياسي عابر، بل هو سؤال يومي يفرض نفسه على حياة سكان هذه المدينة المحاصَرة منذ سنوات. فتعز، التي طالما اعتبرت عاصمة الثقافة والفكر في اليمن، تحولت في زمن الحرب إلى مختبر سياسي واقتصادي واجتماعي معقد. فيها تتقاطع مصالح الداخل والخارج، وتتنازع القوى على النفوذ والموارد والشرعية. من يظن أن الأمر يتعلق فقط بالسلطة المحلية أو المحافظ فهو يختزل المشهد بشكل ساذج؛ ومن يعتقد أن الحوثيين هم وحدهم من يمسكون برقبة المدينة يتجاهل شبكة كاملة من اللاعبين المحليين والإقليميين الذين يفرضون حضورهم في تفاصيل صغيرة وكبيرة. تعز اليوم ليست مدينة تُحكم بقرار مركزي، بل فضاء متشابك تُدار فيه السلطة عبر موازين قوة متغيرة.


السلطة الرسمية.. حضور شكلي وإمكانات عاجزة


منذ اندلاع الحرب، بقيت السلطة المحلية، ممثلة بالمحافظ والمكاتب التنفيذية، هي الوجه الرسمي للدولة داخل تعز. لكن هذه الشرعية الشكلية لم تتحول إلى سلطة فعلية. فالسلطة المحلية تصطدم بعقبتين أساسيتين: المال والأمن. من الناحية المالية، تعاني مؤسسات تعز من شح شديد في الموارد. الإيرادات المحلية محدودة ومجزأة بين جبايات متفرقة ورسوم بلدية وضرائب لا تكفي لتغطية أبسط الاحتياجات. أما التحويلات المركزية من العاصمة المؤقتة عدن، فإما تصل متأخرة وإما لا تصل مطلقًا، وهو ما أدى إلى عجز مزمن عن دفع رواتب الموظفين أو تمويل الخدمات الأساسية.


من الناحية الأمنية، فإن المدينة تعيش على خطوط تماس دائمة، إذ يفرض الحوثيون حصارًا خانقًا من الشمال والشرق والغرب، بينما تبقى بعض الطرق الجنوبية مرتبطة بممرات غير آمنة ومكلفة. هذا الوضع جعل السلطة المحلية تعيش على إدارة أزمات متواصلة: أزمة كهرباء لا تنتهي، مياه شحيحة، نظافة متعثرة، صحة وتعليم يتآكلان. وهكذا، تحولت السلطة الرسمية إلى «واجهة» ترفع شعار الدولة لكنها لا تملك أدواتها، وتجد نفسها محاصرة بين عجز الموارد وضغط السكان وابتزاز القوى المسلحة.


المحور العسكري والأمن.. اليد الصلبة المرهقة والمنقسمة


من المفترض أن يكون الجيش والأمن في تعز هم العمود الفقري للمدينة، لكن الواقع يكشف صورة أكثر هشاشة. فالمحور العسكري، الذي تشكل في معظمه من فصائل المقاومة الشعبية عام 2015، لم ينجح في التحول إلى مؤسسة موحدة. عملية دمج الوحدات كانت شكلية أكثر منها حقيقية، إذ ظلت معظم الألوية تدين بالولاء لقادتها المباشرين أو لجهات سياسية محددة، وعلى رأسها حزب الإصلاح.


هذا الانقسام جعل القرار العسكري رهينًا للتوازنات، وليس للخطط الميدانية. أي عملية عسكرية كبرى تحتاج إلى توافق حزبي ومناطقي قبل أن تكون قرارًا عسكريًا صرفًا. إضافة إلى ذلك، تعاني الوحدات العسكرية من نقص دائم في الدعم اللوجستي والتموين والذخيرة، ما يجعلها غير قادرة على شن عمليات واسعة لتحرير بقية المحافظة.


ومع ذلك، يبقى المحور العسكري هو السقف الذي يمنع الانهيار الكامل، إذ يضبط الأمن داخل المدينة بدرجة نسبية، ويمنع تحولها إلى ساحة فوضى شاملة. لكن هذه «اليد الصلبة» تبدو مرهقة ومنقسمة، عاجزة عن الحسم، ومكتفية بدور الدفاع والتموضع.


حزب الإصلاح.. من الثورة إلى الحاكم غير المعلن


لا يمكن فهم تعز من دون التوقف عند حزب الإصلاح. فمنذ ثورة 2011، عزز الحزب حضوره السياسي والاجتماعي داخل المدينة عبر النقابات الطلابية والجمعيات والمنابر الدينية والإعلامية. ومع اندلاع الحرب عام 2015، وجد الإصلاح نفسه في موقع القيادة للمقاومة الشعبية، ما منح كوادره نفوذًا عسكريًا واسعًا داخل التشكيلات التي تشكل منها محور تعز.


إداريًا، استطاع الحزب أن يفرض حضورًا قويًا في المكاتب التنفيذية من خلال تعيين كوادر محسوبة عليه في مواقع حساسة، خصوصًا في مجالات الإيرادات والجبايات. هذا مكّنه من التحكم بشكل غير مباشر في القرارات المحلية. اجتماعيًا، يمتلك الإصلاح شبكة واسعة من المدارس الخاصة والجمعيات الخيرية والذراع الديني، ما جعله قادرًا على تشكيل الرأي العام وتوجيهه.


هذا النفوذ جعل الإصلاح «الحاكم غير المعلن» للمدينة، الطرف الذي لا يمكن تجاوزه في أي قرار كبير. ومع ذلك، يواجه الحزب انتقادات واسعة من خصومه الذين يتهمونه بتحويل معركة تعز من قضية وطنية إلى وسيلة لترسيخ هيمنته الحزبية، وإضعاف مؤسسات الدولة عبر ربطها بولاءات تنظيمية. ورغم هذه الانتقادات، يبقى الإصلاح اللاعب الأكثر تأثيرًا وقدرة على التعطيل أو التمرير في مشهد تعز.


الحوثي.. سلطة الحصار والتحكم بالمعيشة


رغم أن الحوثيين لا يديرون مؤسسات داخل المدينة، إلا أنهم يمارسون سلطة قوية من خلال الحصار. فمنذ سنوات، يغلق الحوثيون معظم الممرات الرئيسية المؤدية إلى تعز، ويفرضون رسومًا إضافية على البضائع القادمة من مناطق سيطرتهم. هذا الحصار جعل السلع الأساسية، كالخبز والوقود والدواء، رهائن بيد الحوثي.


أثر هذا الوضع على حياة المواطنين بشكل مباشر. فكل تأخير في وصول شاحنة دقيق أو وقود يتحول إلى أزمة خانقة داخل المدينة. المواطن غالبًا لا يحمّل الحوثي المسؤولية المباشرة، بل يوجه غضبه نحو السلطة المحلية التي يعجز مسؤولوها عن توفير الحلول. وهكذا، يمارس الحوثي سلطة غير مباشرة على المدينة: سلطة الحصار والتجويع والتحكم بالاقتصاد والمعيشة. إنها سلطة سلبية لكنها فعّالة، تجعل الحوثي شريكًا قسريًا في رسم ملامح المشهد داخل تعز.



اللاعب الإقليمي.. نفوذ الطريق والمنافذ


لا يمكن إغفال دور القوى الإقليمية المتمركزة في الساحل الغربي والمدعومة من التحالف. فمن يسيطر على المنافذ والطرق والموانئ يملك تأثيرًا مباشرًا على حياة الناس داخل تعز. فالطريق هو شريان الحياة، وأي قوة تمسك به تتحكم بأسعار السلع وسرعة تدفقها.


هذه السيطرة منحت اللاعبين الإقليميين «حق فيتو» غير معلن على قرارات تعز. فالتجار والمواطنون مضطرون للمرور عبر هذه الطرق، ودفع الرسوم، وتحمل تكاليف إضافية، ما يرفع كلفة المعيشة. وهكذا، صارت تعز محاصرة ليس فقط من الحوثيين، بل أيضًا من شبكة مصالح إقليمية ومحلية تتحكم بمنافذها. هذا الوضع جعل قرارات المدينة رهينة لمعادلات أكبر من قدرتها على الفكاك منها، وأبقى أهلها في حالة انتظار دائم لأي تسوية أو تفاهمات جديدة.




اقتصاد الحرب.. نفوذ التجار وشبكات النقل


الحرب لم تُنتج فقط انقسامات سياسية وعسكرية، بل خلقت أيضًا اقتصادًا مشوهًا قائمًا على شبكات مصالح. في تعز، أصبح للتجار الكبار وسماسرة النقل وزن سياسي يوازي نفوذ القادة العسكريين. هؤلاء يتحكمون في أسعار السلع، التي ترتفع وفقًا لتعقيدات الطريق وكثرة الحواجز والجبايات. وكلما زاد عدد هذه الحواجز ارتفعت أرباحهم.


هذا الوضع خلق مصالح متجذرة في استمرار الأزمة. فالتجار المستفيدون من اقتصاد الحرب لا يرغبون بفتح ممرات إنسانية دائمة أو توحيد الرسوم الجمركية، لأن ذلك يعني خسارتهم لأرباح طائلة. وهكذا، أصبح الاقتصاد المشوَّه أحد العوامل الحاكمة لمشهد السلطة في تعز. المواطنون العاديون هم الضحية الأولى، إذ يدفعون ثمنًا باهظًا مقابل الغذاء والدواء والوقود، بينما يزداد الأغنياء ثراءً في زمن الحرب.


المجتمع المدني والإعلام.. الضمير الذي يقاوم


رغم هذا المشهد القاتم، يبقى المجتمع المدني والإعلام في تعز حاضرين بقوة. المدينة التي عُرفت تاريخيًا بأنها مركز للثقافة والتعليم لم تفقد تمامًا روحها النقدية. النقابات الطلابية، منظمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام المحلية تلعب دورًا مهمًا في فضح الفساد ومساءلة المسؤولين.


أي قرار كبير يخضع لاختبار الشارع. الحملات المدنية والإعلامية حول قضايا مثل الجبايات أو تردي الخدمات أو انهيار الطرق تحولت إلى أدوات ضغط أجبرت المسؤولين أحيانًا على التراجع أو التصحيح. ومع ذلك، فإن طول أمد الحرب أرهق المجتمع المدني، وقلص من قدرته على الاستمرار بفعل نقص التمويل والتهديدات الأمنية. لكن حتى مع هذا التراجع، يظل الوعي المدني في تعز صمام أمان، يمنع الانهيار الكامل، ويذكّر دائمًا بأن هناك سلطة مساءلة مهما كانت ضعيفة.


---


الى اين ياتعز ؟ حكم بالتوازن لا بالقرار


من يحكم تعز إذن؟ الجواب أن الحكم فيها ليس لشخص واحد أو جهة بعينها، بل لشبكة متداخلة:


* السلطة الرسمية تمسك بالختم والشرعية الشكلية.

* المحور العسكري والأمن يمسكان بالقوة الصلبة لكن المنقسمة.

* حزب الإصلاح يمسك بالمفاصل الإدارية والعسكرية والاجتماعية.

* الحوثي يمسك بالحصار والاقتصاد المعيشي.

* اللاعبون الإقليميون يمسكون بالمنافذ.

* التجار يمسكون بالأسواق.

* والمجتمع المدني يمسك بضمير الشارع.


إنها ليست سلطة تُمارس بالقرار، بل «شراكة اضطرارية» يحكمها مبدأ «حق التعطيل». كل طرف قادر على تعطيل القرار إذا استُبعد من الحساب، ولهذا تتأخر القرارات أو تُفرغ من مضمونها. إذا أرادت تعز أن تخرج من هذه الحلقة الجهنمية، فلا بد من كسر معادلة التعطيل عبر: توحيد القرار العسكري، ضبط الإيرادات بآليات شفافة، وتأمين ممرات آمنة للسلع بعيدًا عن الابتزاز. عندها فقط يمكن أن تبدأ المدينة رحلة الحكم الحقيقي بمعناه الأبسط: خدمة الناس لا خدمة التوازنات.


القسم السياسي – صحيفة عدن الغد