يتصف " الجبان" حتما بأسوأ صفة يتصف بها رجل. لا توجد صفة مُعيبة في حق أي رجل أكثر من الجبن. حتى الرجل غير المثقف -على فداحة هذا العيب - أقل ضررا من الجبان. الجبان يضيع نفسه، أسرته، بل ووطنه. لكن – سبحان الله - لكل شيء ميزة، حتى العيب له ميزة. فالميزة في الجبن ان هذا الرجل الجبان يظل سالما آمنا. الا تتفق معي؟
تحترق الدنيا حول الجبان فيلوذ بالفرار دون أن يكبد نفسه مشقة انقاذ أحد. لا ينتظر منه أحد أن ينجده لأنه جبان. اللصوص تنهش الأخضر واليابس مما يحيط به، فيتفرج من نافذته على المشهد فلا يتحرك للدفاع لا عن اليابس ولا حتى عن الأخضر. لا يحركه لا ضرورة إطفاء النار، ولا هو مستعد لمواجهة اللصوص، فقد يفترسونه. الناس المحيطة به تمشي حافية، وتعرى. ما دخلي؟ تقول نفسه. يبقى فمه ساكت بغراء الجبن الجيف. ما شأنه؟ انه حتى لا ينتقد من أحرق، لا يدعو على من قام بتجويع الناس، لا يشتم من تسبب بفقر أوصل الناس للعري. هو مرتاح لأنه جبان. الجبان باع وطنه وأشترى الأمان والسلامة. يتجاهل الحقيقة الفاضحة أن الجبان والعميل أخين أو توائمين.
قبل مائة عام - أو مائة عام ونيف - كان في حارتنا شابان من الباعة المتجولين. حكت لنا جدتي عنهما. الأول يدفع عربة ليبيع بطاط مسلوق والثاني يدفع عربة ليبيع شبس. سألت جدتي:-" كنتم تعرفون الشبس يا جدة؟ " لم ترد الا بنظرة شزر، واصلت تسرد علينا، هي دائما ما تستخدم أسلوب الرمزية. فإذا كان جدي مستاء منها تقول لنا في السماء اليوم غيوم. المهم واصلت حكايتها.
الشابان كانا يتعرضان لمظالم حيث كان الزمان قبل مائة عام أسود من الظلمات. كبير الحي آنذاك يسمونه شيخ مثلما نسمي حاليا عاقل الحارة. عاقل الحارة لديه حراس كانوا يتسكعون في الشوارع مستغلين نفوذهم. كانوا يستغلون وينكلون بالشابين المتجولين لأنهم بلا حول ولا قوة. كان الحراس يأكلون الشبس مجانا بشكل يومي. الشاب صاحب عربة الشبس جبان ويطعمهم بلا أي اعتراض واضح. اما صاحب عربة البطاط المسلوق فلم يكن كذلك. زد على استغلالهم للشاب صاحب عربة الشبس واكل رزقه مجانا كانوا بالإضافة لذلك يهددونه إن اشتكى لعاقل الحارة لسوف يبترون ساقه او يختطفون أمه. كانوا أحيانا ينزعون منهما مالا كغرامة بحجج واهية مثل عدم النظافة او إيجاد شعرة لا وجود لها في صحن الشبس. الام والساق غاليان، فكلاهما منبع رزق. فلزم الشاب صاحب الشبس الصمت. يقدم لهم الشبس. يضيف لصحونهم ملح وبهارات سوداء. لم يكن الكتشب المتوفر الان موجودا قبل مائة عام. كان حراس عاقل الحارة بطبيعة الحال لا يعطونه قيمة ما يأكلونه. برغم ذلك كان يقول لهم هنيئا، كيف مذاق الشبس؟ من شدة خوفه منهم. يمتدحهم. أحيانا يلقي عليهم نكات ليضحكوا وهم يلتهمون رزقه. يكملون اكلهم فيمضون وفي جيوبهم مال الغرامة الحرام. هذا وهم من رأسهم حتى أصابع أقدامهم عبارة عن حرام متحرك. ثم يتجول الشاب بعربة الشبس بحثا عن زبائن.
قبل مائة عام كان الظلم في عهد أزدهر فيه وأينع. أفقدوا الانسان هويته وكرامته. الكرامة إذ تروح فإنها لا ُتسترجع. الحمد لله كثيرا اننا لم نكن موجودين قبل مائة عام. عاش الشاب ذاك، جبان لكن سالم. لم يلحظ ان كرامته غادرته. صاحب عربة الشبس انجح من الشاب صاحب عربة البطاط المسلوق. فالأخير كان لا يرضخ للحراس البلطجية ويتشاجر معهم بشكل يومي بصوت مرتفع. لذا تجنب الناس الاقتراب منه للشراء من عنده لئلا يعرضوا أنفسهم لأي عراك. الشاب صاحب عربة البطاط المسلوق يصرخ في الحراس ان لن تأكلوا شيئا حتى تدفعون قيمة ما ستأكلونه مقدما. ركلوا بأقدامهم العربة فكادت تسقط لولا ان سارع الشاب يسندها بكلتا يديه وركبتيه. كلمهم مرارا انه أب ويعول. لكنهم غير آبهين لما يقول. فهكذا يفعل المجرمون! شرح لهم تكرارا ان عمله شاق ومضني فلا يزيدن على مشقته بما يفعلونه معه. أفهمهم ان الربح اليومي الذي يعود به لزوجته وابنه شحيح. فإن أكلوا هم مجانا عاد بلا ربح البتة. فقاموا بركله هو بدلا من عربته. ظلم وقهر. صمد الشاب صمود من يتشبث بالحياة ولو كانت تعيسة.
أما الشاب صاحب عربة الشبس فكان يتابع مشهد مواجهات الحراس ومضايقتهم للشاب صاحب عربة البطاط المسلوق بشيء من شعور المنتصر بالزهو. انتصار الجبان. فهو يجنب نفسه التنكيل أمام مشاة الشارع. والله ان طاعة حراس عاقل الحارة أكثر أمانا وأسهل مما يواجه صاحب عربة البطاط المسلوق.
يعود الشاب صاحب عربة البطاط المسلوق بعد المغرب إلى دكان يسكن فيه مع زوجته وولده مثقل بمليون هم. ما نوع هؤلاء الحراس، هل في شرايينهم ولو نقطة دم؟ يجلس محاذيا لزوجته معبرا عن حيرته لما أصلا يشتهون اكل بطاط مسلوق؟ يقدم لهم طباخو عاقل الحارة الدجاج، اللحم والأرز. تتنهد زوجته راثيه للحال. صارت مع الوقت مريضة بالقلب من القهر. بينما يمسك هو جمجمته بكلتا يديه لئلا يتطاير عقله في شتى الاتجاهات. القهر مر. دعى الله ألا يذيقه لمسلم. هو واثق أنهم لن يتركوه يقتات في هذه الحارة. الله كيف كان الظلم قبل مائة عام. ها، مائة عام ونيف. أبلغ زوجته ألا تترك ولده يلعب أمام باب الدكان فقد هدده الحراس بخطفه.
صباحا كان الليل قد دخل في بيات شتوي داخل روحه فأثقله بحزن لا يوصف. خلقه الله إنسان لا جبل! ما عاد يحتمل ولو مثقال قشة من الهم. أحتضن زوجته وولده وأخذهم لدكان والد زوجته. رحل دون أي توديع.
ذهب الى الشاطئ، شاطئ المدينة. رأى وسط البحر سفينة. تحول هو الى شراع اقترن بالسفينة واقلع. فرد ذراعيه مليء السماء وزفر. لقد نجت روحه. استحالة أن ينكل حراس عاقل الحارة بشراع. سيغادر أرض المظالم المتلبسة بزي الفضائل. سيهاجر من أرض النفاق. أرض أكل حقوق الضعيف. سوف يحيا شراع. بلا ميناء صحيح لكن لا بأس خيرا من أن يكون ٌمطأطئ الرأس بين الرعاع.