في حياتنا ثمة صنفٌ من الناس يلجون ذواتنا، فيشعلون في حواسنا قبسًا لا ينطفيء، يفتحون أذهاننا على أشياء لم تكن مرئيةً ولا مدركة، بل وينقشون في أعماق أرواحنا وسماً لا يُمحى .
ومن هذه النوعية الجميلة امرأةٌ اسمها "فاطمة". كنا صغارًا تستهوينا قصصها البديعة، وكنا نتحلّق حولها كل مساء بين صلاتي المغرب والعشاء.
كانت تجلس في المتكأ كسلطانة عظيمة، تدخّن النارجيلة بلذةٍ ونشوة، وتتناول وريقات القات بقلةٍ لكن بذوقٍ وأناقة.
كان موعد قصصها رحلةً ممتعةً تأخذنا فيها إلى عوالم الدهشة والأساطير والخيال. كنا نحدّق في وجهها، ونتفاعل مع كل نظرةٍ ونبرةٍ وزفرة دخان.
استطبنا لهذه "المحازي" – وفق تعريف كبار السن الذين كانوا يحفظون تلك الحكايات لكنهم يفتقرون لأسلوب فاطمة وخيالها الفسيح الذي يتجاوز المكان والزمان.
مساءاتها كانت مميزة، وسردها لا يُضاهى، وأسلوبها شيقٌ ومثير في عرض القصة وتصوير أبطالها إيجابًا أو سلبًا. لكل قصة تمهيدٌ وحبكةٌ ونهاية، ولكل قصة اختيارٌ ووقتٌ ورغبةٌ ورسالة.
لم تكن تحكي لمجرد إبهارنا أو للتخلّص منا؛ ففي ليالٍ كان مزاجها سيئًا، رفضت مطلقًا سرد أي من قصصها الجذابة الآسرة للعقل والسمع.
ورغم توسلاتنا، عدنا من غرفتها خائبين. لطالما قالت لنا: "الحكي يستلزم مزاجًا رائقًا، ونفسًا طويلًا، وشعورًا بالمتعة".
وأعجب ما في قصصها خيالها الواسع؛ لم تكن تكتفي بما هو محفوظٌ ومعلوم، بل كانت تضفي إضافاتٍ سرديةً جميلة، أو تتدارك المشاهد العنيفة أو الجنسية بتجاوزات سحرية محببة غير خادشة للحياء.
عندما كبرت وقرأت وشاهدت أعمالًا فنيةً دراميةً وسينمائية، تساءلت بحسرة: ماذا لو أن فاطمة درست الأدب والفن والشعر؟! ماذا لو توافرت لها البيئة التي صنعت أسماءً نسويةً مثل نازك الملائكة أو بنت الشاطئ أو سعاد الصباح أو غادة السمان؟!
فاطمة فقدت زوجها ولم تكمل شهر العسل؛ إذ استشهد هو ورفيقه بقذيفةٍ من طيران الجيش البريطاني بينما كانا ضمن ثوار ما سُمي بحركة الشيوعية في هزيع الخمسينات.
أشقاؤها – بنون وبنات – حصدتهم جائحة الطاعون، فبقيت وحيدة والديها. ورغم عروض الزواج، صدّتها جميعًا، ونذرت نفسها لخدمة والديها: أبيها الكفيف وأمها – جَدّتنا جميعًا – أطفال القرية.
ومع ما أصابها ، وقفت شامخةً، شخصيتها قويةٌ مؤثرة. بيديها تصنع الجمال في أبهى صورة؛ ما من عرسٍ أو عيد إلا وكانت حاضرةً في ثناياه، ترسم بأصابعها الساحرة أجمل النقوش بالحناء على أيدي العروسات ووجوههن، وتخلع البسمات على شفاه الصغيرات.
وفي أمسيات الأفراح، تنتقل من طور القاصة إلى طور الشاعرة، تنثر كلماتها وتجلياتها في مسمع المغنيات. كانت تقف وسط النسوة مرتجلةً أبياتها بثقةٍ وسلاسة، بكلماتٍ وجيزةٍ عميقة لم نكن نفهما آنذاك.
ولما كبرنا، أدركنا معانيها ومغازيها. عند حزنها أو سخطها، كانت كلماتها كالنار والرصاص ، وإذا كانت راضيةً مسرورةً، كان شعرها مباركًا مفعمًا بالفرح.
عندما قرأت للكاتب علي محمد عبده "حكايات وأساطير يمنية"، ذُهلت من إلمام فاطمة وحفظها لتلك الحكايات ال ١٢ المدونة بين دفتي الكتيب .
أعجبت بقصة "ورقة الحناء" بشكلٍ خاص؛ فقد تركت أثرًا لا يُمحى في وجداني . وبقصة ' الجرجوف " وتحكي مأساة طفلة ورطتها زميلاتها بالصعود إلى شجرة العِلْب لهز أغصانها حتى تساقطت حبات الدوم فجمعن ما تساقط وتركن الفتاة تصارع قدرها .
والفضل في ذلك يعود لفاطمة، وإلا لكنت الآن من زمرة الجاهلين بتلك الأساطير، وبمهاجل وأشعار الحُميد بن منصور، أو قصصه المأثورة عنه وعن زوجته أو ابنته "بدرة"، أو زوجات أولاده.
لم أحدثكم بعد أن فاطمة – بطلة قصتنا – طبيبةٌ بالفطرة. فقد أخذت المهنة من الرعيل الأول. بعد وفاة والديها، أضحت غرفتها المتواضعة قبلةً لعشرات الحالات المرضية الوافدة من مختلف الأماكن.
تشخّص الحالات بقدرةٍ فائقة، وبمجرد أن تسمع شكوى المريض أو تضع يدها على موضع الألم. عالجت عشرات الحالات، وأعادت مثلها ناصحةً إياهم بمراجعة الأطباء المختصين بالأمراض الباطنية أو الأورام أو الجراحة أو النساء أو المخ والأعصاب.
في آخر زيارة لي للقرية، أُصبت بالهلع من حالتها الصحية. جلست بجانبها كما كنا نجلس نحن الأطفال نتحلّق حولها. الفرق الآن أنها تعاني من أسقام الثمانينات، ومع ذلك لا تكف عن استقبال المرضى.
ما زالت النارجيلة تُقرقر، والدخان يتصاعد من بين شفتيها. أخذت تتحدث تارةً وتضحك تارة أخرى. قالت إنها وصلت المحطة الأخيرة، لكن ما زال هناك من يريدها أن تواصل مشوارها رغم المشقة وانتهاك حقها في الراحة والمداواة لجسدها المتعب.
كان دخان التبغ يملأ غرفتها. وعندما طلبت منها التوقف عن التدخين بشره، استخفّت بنصيحتي وضحكت هازئة: "النيكوتين يقتل الخلايا السرطانية في الدم! لولاه لما تركني السرطان أعيش كل هذا الوقت!"
أخبرتني أنها استقبلت مرةً حالةً لامرأة تعاني من ورمٍ خبيث. سألتها: كيف شخّصت حالتها؟ فأجابت:
"وضعت يدي على موضع الوجع، فأدركت بخبرتي أنه ورم خبيث وليس كما تدعي. فأسررت إلى زوجها دون علمها، وتأكد الأمر بعد الكشف الطبي."
ذكرتها بأيامها المجيدة، بزمن الحناء والخضاب والشعر، فتبسمت وقالت: "صنعة قديمة لم تعد تُؤكل عيشًا، خاصة مع وسائل النقش الحديثة."
ورغم هول التطور التقني والمهني، إلا أن ذلك لم يحد من قدراتها المذهلة. فخبرتها الطويلة تجعلها واقفة في وجه العاصفة كشجرة سنديان .
كما ولها مخزون من المأثورات يدفعنا لأن نصغي ونسرد قصتها التي تشبه – في ميثولوجيا التراث – "ورقة الحناء" أو حكايات " شهرزاد " بنت الوزير ، وزوجة الملك ' شهريار " في قصة " الف ليلة وليلة " .
فاطمة.. امرأة من زمن آخر، تختزل في شخصها حكايات أمّة، وأساطير شعب، وندوب تاريخ. هي ليست مجرد سردية جميلة نرويها للذكرى، بل هي شاهد حي على أن بعض الأرواح لا تُخلق إلا لتحمل أكثر من عمرها، وأكثر من جسدها، وأكثر من زمانها.
في غرفة متواضعة بدخانها ونارجيلتها، تتحول إلى كائن أسطوري يرفض الرحيل، كأنما هي الحكاية التي ترفض أن تنتهي، والخيط الذي يصل الماضي بالحاضر، والخوف الذي ينتابنا أن نموت قبل أن نروي كل ما في صدورنا.
فاطمة أسطورةً ، لا تدري انها في عيوننا ووجداننا اجمل من اسطورتي ورقة الحناء اليمنية أو سيزيف الإغريقية ، أو أننا لا ندرك عظمة وجودها في حياتنا !! . وفي الحالتين هي كائنة خُلقت لتروي وتداوي ، وينبغي أن نروي قصتها لأطفالنا، عرفانا وإنصافا لها ، وخوفا أن ينساها الزمن .
محمد علي محسن