قبل أيام، شهدت العاصمة المؤقتة عدن حدثًا غير مسبوق على مستوى الحراك الشعبي النسوي، حين خرجت الاف النساء في ساحة العروض بخور مكسر في تظاهرة صاخبة، حملت معها صرخات المعاناة، وغضب المكابدة اليومية، ورفعت شعارات تطالب بتوفير الخدمات الأساسية، وتحسين الوضع المعيشي، واستعادة كرامة المواطن، وتحديدًا المرأة العدنية التي باتت اليوم تتصدر مشهد الاحتجاج في وجه الأزمات المتراكمة.
ما حدث لم يكن مجرد حشد نسائي عابر، بل كانت صرخة مكتظة بسنوات من الإقصاء والتجاهل والمعاناة التي تجذرت في الواقع العدني. خرجت النساء ليرددن بصوت واحد أنهن لسن مهمّشات، وأن عدن ليست مدينة صامتة. فإلى أين تتجه هذه التظاهرة؟ وهل نحن أمام احتجاج لحظي أم بداية حراك نسوي متواصل؟
من التراكم إلى الانفجار
الاحتجاجات النسوية الأخيرة لم تأتِ من فراغ، بل كانت نتيجة تراكم طويل للألم المجتمعي، فعدن، المدينة التي وُصفت دومًا بمدينة المدنية والوعي، تعاني اليوم من انهيار حاد في الخدمات، من كهرباء ومياه وصحة وتعليم، ناهيك عن الغلاء الفاحش وانعدام الرواتب وانفلات الأوضاع الأمنية. المرأة العدنية، التي كانت دومًا في طليعة النضال المدني والسياسي، خرجت لتقول: “لقد بلغ السيل الزبى”.
لم تكن اللافتات التي رُفعت مجرد شعارات؛ بل كانت تعبيرًا صادقًا عن الألم: “نريد كهرباء”، “نريد ماء”، “نريد حياة”. كانت أصوات النساء تهتف من ساحة العروض وكأنها تصرخ باسم كل بيت عدني يئن من العجز، وكل أمٍّ تحترق تحت وطأة انقطاع الكهرباء، وكل فتاة ترى أحلامها تتبخر في ظل غياب الدولة.
بيان إدارة أمن عدن... محاولة لفرملة الغضب؟
في خضم هذا الزخم الشعبي النسوي، صدر بيان رسمي عن إدارة أمن عدن اشترط فيه على المنظمين لأي فعالية احتجاجية الحصول على “تراخيص مسبقة” من الجهات الأمنية، في محاولة بدت للكثيرين وكأنها تسعى لاحتواء الزخم الشعبي عبر أدوات إدارية.
البيان الذي أكد على احترام حق التعبير السلمي، في الوقت ذاته شدد على ضرورة "تنظيم هذه الفعاليات ضمن إطار قانوني"، وهو ما فُسّر من قِبل ناشطين وحقوقيين على أنه بداية لمرحلة تضييق جديدة ضد الفعل الاحتجاجي، خاصة عندما يأتي من طرف النساء، اللواتي يمثلن اليوم مفاجأة المشهد السياسي في عدن.
هل كانت لحظة عاطفية أم بداية مسار جديد؟
السؤال المركزي الذي يُطرح الآن بقوة: هل كانت هذه التظاهرة النسوية لحظة عاطفية ستنطفئ تدريجيًا، أم أنها بداية لمسار نضالي نسوي متصاعد؟
تشير معطيات كثيرة إلى أن ما حدث ليس وليد اللحظة، وأن جذوره تمتد إلى عمق التحولات الاجتماعية في عدن خلال السنوات الأخيرة، حيث صارت النساء في صدارة العمل المجتمعي والتنموي والحقوقي، ومع تفاقم الأزمات، باتت المرأة هي الأكثر تضررًا، وبالتالي، الأكثر اندفاعًا إلى الواجهة.
وقد شوهد في التظاهرة الأولى طيف واسع من النساء من مختلف الأعمار والانتماءات، ما يوحي أن الغضب لم يكن موجّهًا ضد طرف محدد، بل ضد منظومة فشل شامل في إدارة شؤون المدينة.
الدعم المجتمعي… عامل حاسم في الاستمرارية
النجاح الحقيقي لأي حراك شعبي، نسوي أو غيره، يعتمد على عاملين: التنظيم والاستمرارية. في الحالة النسوية بعدن، ورغم غياب الأطر التنظيمية الواضحة، إلا أن زخم الدعم الشعبي الذي لاقته التظاهرة يُشكل دافعًا كبيرًا للاستمرار.
كما أن ردود الفعل السياسية والإعلامية كشفت عن صدمة بعض الجهات من جرأة النساء، وهو ما قد يدفع باتجاه خلق وعي مضاد يحاول تحجيم هذا الدور. غير أن الدعم الذي أبدته مكونات مجتمعية وشخصيات مدنية وحقوقية للحراك النسوي، قد يكون الحاضنة التي تُنضج هذا المسار وتنقله من فعل احتجاجي عفوي إلى حركة منظمة تحمل مطالب واضحة، وأجندة مدنية قابلة للتفاوض.
ملامح المستقبل... بين الخوف والتطلّع
إن كانت هذه "ثورة نساء عدن"، فإنها جاءت في لحظة بالغة التعقيد سياسياً واقتصادياً، وهذا ما يمنحها بعدًا رمزيًا يتجاوز المدينة نفسها. فعدن، التي كانت دومًا مركز التحولات، تعيد عبر صوت نسائها التذكير بأن الكرامة لا تُجزأ، وأن الصبر له حدود، وأن المرأة العدنية ليست كائناً خاملاً أو مهمشاً، بل شريك فاعل في معركة استعادة الحياة.
المستقبل ما يزال مفتوحًا على كل الاحتمالات، وقد يتعرض الحراك النسوي لمحاولات ترويض أو تحجيم أو حتى تشويه، لكن المؤكد أن المشهد قد تغيّر، وأن لحظة 2025 النسوية في عدن لن تكون عابرة في سجل الوعي الجمعي.
وإذا ما استمرت هذه الحركة بروحها المدنية ووطنيتها الشاملة، فقد تكون بداية لتحول سياسي ومجتمعي أوسع، يضع المرأة في مكانها الطبيعي في قلب مشروع العدالة والتنمية، ويعيد رسم العلاقة بين الشارع والسلطة على قاعدة جديدة من التوازن والاحترام.