آخر تحديث :الأربعاء-31 ديسمبر 2025-08:35م

حين يرتد الضغط على صانعه

الأربعاء - 31 ديسمبر 2025 - الساعة 03:19 م
أحمد عارف العيسائي

بقلم: أحمد عارف العيسائي
- ارشيف الكاتب


في السياقات السياسية المنقسمة، غالبًا ما تبدو الساحة الداخلية مليئة بالخلافات والتباينات، وتتنافس القوى المحلية على الشرعية والتمثيل، ويجد جزء من المجتمع نفسه في موقع المعارضة أو التحفظ تجاه السلطة القائمة. غير أن هذه الخريطة تتغير بصورة لافتة عندما يظهر تهديد خارجي مباشر، أو حين تمارس قوة خارجية ضغوطًا عسكرية أو سياسية على كيان محلي بعينه.


هنا يبرز ما يعرف في علم السياسة بـ نظرية الالتفاف حول العلم، وهي نظرية تفسر كيف تؤدي التهديدات الخارجية – خصوصًا القادمة من دول – إلى إعادة توحيد المجتمع حول السلطة أو الكيان المستهدف، حتى لو كان هذا الكيان موضع خلاف داخلي قبل التصعيد.


الفكرة الجوهرية في هذه النظرية أن الصراع لا يُقرأ دائمًا بوصفه صراعًا على إدارة أو نفوذ، بل يُعاد تأطيره في وعي الناس كصراع على الوجود والكرامة والقرار. وعندما يشعر المجتمع أن طرفًا خارجيًا يحاول فرض إرادته بالقوة أو الإكراه، فإن الخلافات الداخلية تفقد أولويتها، ويتحول الكيان المحلي المستهدف إلى رمز جماعي، لا مجرد سلطة سياسية.


شهد التاريخ الحديث أمثلة عديدة على ذلك. ففي صربيا أواخر التسعينيات، كانت هناك معارضة واسعة لنظام سلوبودان ميلوشيفيتش، لكن الضربات الجوية لحلف الناتو عام 1999 أدت إلى التفاف شعبي كبير حول الدولة والقيادة، حتى من قِبل فئات كانت تنتقد النظام بشدة. لم يكن هذا الالتفاف تعبيرًا عن رضا سياسي، بل عن رفض لفرض الإرادة من الخارج.


وفي الأرجنتين خلال أزمة جزر فوكلاند، ورغم الانقسام الداخلي والرفض الشعبي للحكم العسكري، فإن الصراع مع بريطانيا خلق حالة تعبئة وطنية واسعة، جعلت قطاعات كبيرة من المجتمع تصطف خلف السلطة بوصفها حاملة لرمزية السيادة، لا لأنها تمثل نموذجًا مقبولًا للحكم.


الأمر نفسه تكرر في حالات أخرى، حيث أظهرت التجارب أن الضغط العسكري المحدود، والتهديدات المتكررة، ومحاولات الإكراه غير الحاسمة غالبًا ما تأتي بنتائج عكسية. فبدل أن تُضعف الكيان المستهدف أو تدفع مجتمعه للانقسام عليه، فإنها تخلق شعورًا جمعيًا بأن الخلاف الداخلي يجب تأجيله، وأن الأولوية هي مواجهة الخارج.


الأخطر من ذلك أن هذا النمط من التصعيد لا يوحِّد المؤيدين فقط، بل يدفع حتى المعارضين أو المترددين إلى إعادة التموضع نفسيًا وسياسيًا. فالمعارض، في لحظة التهديد الخارجي، لا يعود معارضًا لسلطة داخلية بقدر ما يصبح رافضًا للتدخل أو الإملاء الخارجي، وهو ما يعزز من شرعية الكيان المستهدف ويمنحه عمقًا شعبيًا لم يكن يمتلكه سابقًا.


تشير الدراسات السياسية إلى أن البديل الأكثر فاعلية للتصعيد الخارجي ليس الضغط، بل الاحتواء السياسي، والحوار غير الإكراهي، وتفكيك أسباب الصراع بدل إعادة إنتاجه. فالتاريخ يثبت أن القوة الخشنة عندما تُستخدم في غير موضعها، قد تصنع من خصمٍ منقسم كتلةً متماسكة، ومن أزمة داخلية قضية جامعة.


في المحصلة، تذكّرنا نظرية الالتفاف حول العلم بأن إدارة الصراعات لا تُقاس فقط بميزان القوة، بل بقدرة الفاعل الخارجي على قراءة البنية النفسية والاجتماعية للمجتمعات التي يتعامل معها. فليس كل ضغط يُضعف، وليس كل تصعيد يُخضع، وبعض السياسات – مهما بدت حازمة – قد تفتح الطريق عكسيًا نحو مزيد من التماسك والتمسك بالقضية.