آخر تحديث :الخميس-25 ديسمبر 2025-07:42م

الوطن مسؤولية لا منصب

الخميس - 25 ديسمبر 2025 - الساعة 04:21 م
محمد العنبري

بقلم: محمد العنبري
- ارشيف الكاتب


هل يلزمك أن تجلس على كرسي السلطة كي تكون مسؤولاً؟

هل حقا تختصر المسؤولية في منصب وتقاس بارتفاع الكرسي وتمنح بقرار إداري أو مرسوم رسمي؟ أم أن المسؤولية أعمق من ذلك بكثير أصدق من أن تحبس في لقب وأنبل من أن تختزل في كرسي؟ إنّ السؤال عن المسؤولية هو في جوهره سؤال عن الضمير عن ذلك الصوت الخفي الذي لا يحتاج إلى ميكروفون ولا إلى منصة ولا إلى تصفيق ليقول للإنسان هنا واجبك وهنا يجب أن تقف.

ليست المسؤولية ثوبا يلبس عند استلام المنصب ويخلع عند مغادرته وليست امتيازا يضاف إلى الاسم بل هي شعور يولد في القلب وينمو مع الوعي ويتجسد في السلوك قبل أن يظهر في الكلمات فكم من إنسان جلس على أرفع الكراسي ولم يكن مسؤولًا وكم من إنسان عاش بعيدا عن الأضواء لكنه حمل وطنا كاملًا في ضميره وسهر عليه بصمت ودافع عنه بصدق وخدمه دون أن ينتظر شكرا أو مكافأة.

الكرسي لا يصنع قائدا بل قد يكشفه فمن كان ضميره حيا زاده المنصب اتساعا وإنصافا ومن كان ضميره ميتا فضحه الكرسي ولو كان من ذهب القائد الحقيقي لا يقاس بعدد المرافقين ولا بموكب السيارات بل بقدرته على أن يبقى إنسانا حين تكثر حوله الإغراءات وأن يظل وفيا للمبادئ حين تتغير الوجوه وأن يضع مصلحة الناس فوق مصلحته مهما كانت التبريرات.

إن أعظم الأوهام التي أصابت مجتمعاتنا أن التغيير حكر على أصحاب المناصب وأن خدمة الوطن لا تبدأ إلا من المكاتب العليا والحقيقة أن الوطن يخدم في الشارع في المدرسة في الحقل في الورشة في الكلمة الصادقة وفي الموقف النزيه يُخدم حين يقرر إنسان بسيط أن يكون أمينا في عمله صادقا في قوله رحيما في تعامله شريفا في كسبه فكم من فساد بدأ بتنازل صغير وكم من وطن تآكل لأن كثيرين قالوا “ما شأني؟ هذه ليست مسؤوليتي”.

من أراد بناء وطن لا يقف متفرجا ينتظر التعليمات ولا يختبئ خلف الأعذار ولا يلهث خلف التصفيق الوطن لا يحتاج إلى مزيد من الخطب بل إلى أفعال صامتة تشبه المطر لا تحدث ضجيجا لكنها تحيي الأرض يحتاج إلى قلم يكتب كلمة تنير عتمة لا كلمة تزين باطلًا. يحتاج إلى عقل يعلّم جيلًا كيف يفكر لا كيف يردد يحتاج إلى يد تزرع شجرة أو تبني حجرا أو تنظف شارعا أو تصلح خللًا، لأن كل عمل شريف لبنة في جدار الوطن.

المسؤول الحقيقي لا يقول “هذه ليست وظيفتي” لأن الوطن في نظره ليس مقسما إلى ملفات ضيقة بل هو كيان حيّ أي خلل فيه يمس الجميع يرى في كل شارع متسخ واجبا أخلاقيًا وفي كل طفل ضائع أمانة وفي كل كلمة كاذبة خطرا على وعي الأمة هو ذلك الإنسان الذي يشعر بالألم حين يرى ظلما حتى لو لم يمسه مباشرة ويتحرك بدافع الضمير لا بدافع الخوف أو الطمع.

كم من أوطان سقطت لأن الكراسي كبرت والقلوب صغرت ولأن المنصب صار غاية لا وسيلة ولأن المسؤول نسي أنه خادم لا سيد. فالمسؤولية الحقة تعني أن تكون أوسع صدرا من المنصب وأكبر قلبا من الكرسي وأن لا تسمح لكرسيٍّ مهما علا أن يكون أكبر من إنسانيتك ولا أعلى من مبادئك تعني أن تدرك أن المنصب زائل لكن الأثر باق وأن التاريخ لا يحفظ عدد السنوات التي قضيتها على الكرسي بل يحفظ ماذا فعلت وأنت عليه.

الوطن لا يبنى بأكتاف المتفرجين ولا بنوايا المؤجلين بل بسواعد المخلصين الذين يعملون دون أن يسألوا “وماذا سأحصل؟”. أولئك الذين آمنوا أن الوطن ليس عنوانا على بطاقة الهوية بل مسؤولية تحمل كل يوم في كل موقف في كل اختيار مسؤولية أن تقول “لا” حين يجب أن تقال وأن تقول “نعم” للحق ولو كنت وحدك.

فلا تنتظر إذنا من أحد كي تكون مسؤولًا ولا تؤجل دورك إلى أن تمنح منصبا أو لقبا ابدأ الآن من حيث أنت بما في يديك بما تعرف وبما تستطيع قد تكون كلمة صادقة في وقت عز فيه الصدق أو موقفا شجاعا في زمن كثرت فيه المساومات أو عملًا بسيطا لكنه نابع من إخلاص وربما دون أن تدري يكون ذلك الفعل الصغير هو الشرارة التي تعيد لوطن ما إيمانه بنفسه وتغير وجه أمة بأكملها.