لم تكن حضرموت يومًا ساحة مستباحة ولا أرضًا بلا أصحاب، غير أن ما تتعرض له اليوم ليس وليد اللحظة، بل امتداد مباشر لأطماع خارجية قديمة، تغيّرت مسمياتها وبقي جوهرها واحدًا. أطماع اجتمعت مصالحها، مهما اختلفت الدول والرايات، ووجدت في تفكيك حضرموت وتحييد قضيتها مدخلًا مريحًا لمشاريعها. لم يأتِ هذا الاستهداف عبر الحرب المباشرة، بل عبر سياسة أكثر خبثًا: إماتة القضية تحت لافتة التهدئة، وتخدير الشارع بشعارات الثقة، بينما تُسحب الأرض من تحت الأقدام بهدوء.
هذه الأطراف الخارجية، التي يُطلب من الحضارم الوثوق بها، لم تُخفِ يومًا استعدادها للتضحية بالإنسان الحضرمي متى ما تعارض وجوده مع مصالحها. التاريخ القريب شاهد، والوقائع اليومية تؤكد أن الإنسان هنا مجرد رقم، وأن الأرض تُدار كملف نفوذ لا كموطن لأحياء. وما يُسوَّق على أنه حرص أو شراكة، لم يكن سوى وصاية فظة، تُدار من الخارج وتُنفَّذ بأدوات محلية مرتهنة.
حضرموت عرفت هذا الأسلوب من قبل. فعندما فشلت السلطنة الكثيرية في إخضاع الأودية والسواحل، لم يكن السبب ضعف حضرموت، بل قوة مجتمعها ووجود قوى حضرمية أصيلة، وفي مقدمتها دولة ومشيخة آل العمودي، التي شكّلت سدًا منيعًا أمام مشاريع السيطرة. وحين عجزت السلطنة عن الحسم، لجأت إلى المرتزقة، خصوصًا من يافع، فدخلوا حضرموت لا شركاء ولا جيران، بل أدوات قمع مأجورة، عبثت بالتوازن الاجتماعي، وفرضت واقعًا مرفوضًا، وخلّفت جراحًا لا تزال آثارها حاضرة.
وفي مسار آخر، كررت المملكة المتوكلية السلوك ذاته، مستخدمة المرتزقة ثم متخلية عنهم، لتلتقطهم بريطانيا لاحقًا وتحوّلهم إلى جنود في خدمة الاستعمار، يقمعون أهل عدن الأصليين ويحرسون مصالح المحتل. هذا التاريخ ليس رواية عاطفية، بل سجلًا واضحًا يثبت أن الارتزاق كان ولا يزال الخيار الأرخص لكل من يريد السيطرة دون كلفة سياسية أو أخلاقية.
اليوم، يُعاد إنتاج المشهد نفسه بوجوه جديدة. المجلس الانتقالي خرج عن الدولة كما خرجت قوى أخرى قبله، وأسهم في تقويض ما تبقى من مؤسسات، ومع ذلك يُقدَّم كشريك مقبول، بينما يُدان غيره. هذه الازدواجية لم تعد خافية؛ فالمسألة لم تكن يومًا قانونًا أو دولة، بل طاعة المشروع الخارجي. من يخدمه يُكافأ، ومن يخرج عنه يُجرَّم.
في ظل هذا العبث، كانت حضرموت الهدف الصامت. استُخدمت التهدئة كسلاح لتعطيل أي حراك حقيقي، وتفريغ القضية الحضرمية من مضمونها، وتمزيق الصف الداخلي، وشراء الولاءات، وإغراق المشهد بواجهات تدّعي التمثيل وهي في حقيقتها أدوات تنفيذ. ما جرى في عدن من تدمير ممنهج للبنية التحتية وتحويل المدينة إلى مساحة طاردة للحياة ليس إلا نموذجًا لما يُراد تعميمه. وما حدث في سقطرى وميون من تفريط وتهجير يفضح النوايا بلا مواربة.
اليوم، لم يعد هناك مجال للالتباس. الأقنعة سقطت، والاصطفافات باتت واضحة. من ارتهن للخارج، أيًّا كان اسمه أو لافتته، لا يختلف في جوهره عن غيره من الأدوات، والمجلس الانتقالي ومن يدور في فلكه وجهان لعملة واحدة، عنوانها الارتهان، مهما اختلف الخطاب.
إن مسؤولية الحضارم اليوم تاريخية. إما الاستمرار في الدوران داخل مشهد صُنِع لإفراغهم من قرارهم، أو الاتفاق على مجلس حضرمي خالص، نابع من الأرض، لا يضم شذاذ الآفاق ولا سماسرة القضايا، مجلس يعبر عن إرادة الناس لا عن رغبات الخارج. فحضرموت لا تُدار بالوصاية، ولا تُحكم بالمرتزقة، ولا تُختزل في ملفات تفاوض.
والتاريخ، الذي فضح المرتزقة بالأمس، سيفضحهم اليوم. أما حضرموت، فباقية بأهلها، لا بمن باعوها، ولا بمن راهنوا على أن القضايا تموت بالصمت.
د. محمد جمال عبدالناصر بن عبود