آخر تحديث :الخميس-11 ديسمبر 2025-11:40م

زيارة إلى صحيفة 14 أكتوبر… حين يكشف حديثٌ عابر عمق جرح الوطن

الأربعاء - 03 ديسمبر 2025 - الساعة 06:24 م
نجيب الكمالي

بقلم: نجيب الكمالي
- ارشيف الكاتب


ذهبتُ صباح اليوم في زيارة إلى صحيفة 14 أكتوبر، زيارة بدت في ظاهرها بسيطة، لكنها حملت في طيّاتها الكثير من المعاني. منذ لحظة دخولي شعرت بأن للمكان روحًا خاصة، روح مؤسسةٍ إعلامية حملت عبر عقود همَّ الوطن وصوت الناس، رغم كل ما مرّ عليها من ظروف وتحديات.


وفي مستهل الزيارة مررت على إدارة الحسابات، حيث كان الموظفون يؤدّون أعمالهم بروح تتحمّل ضغط الواقع وتقاومه بصبرٍ يومي. جلست لبعض الوقت، وهناك بدأ حديثٌ لم أخطط له، لكنه تحوّل إلى أحد أعمق النقاشات التي خضتها منذ فترة. كان الحديث عن فلسطين، عن المعاناة المستمرة التي يعيشها ذلك الشعب العظيم، وعن العدالة التي تُغتال كل يوم أمام العالم.


إحدى الموظفات كانت تمتلك وعيًا لافتًا، تحدثت بنبرة تدل على فهمٍ عميق للقضية. لم تكن كلماتها شعارات، بل تحليل ناضج ورؤية قائمة على متابعة واهتمام حقيقي. وجدت نفسي أستمع إليها بإعجاب، وأشعر بأن القضية الفلسطينية ليست فقط موضوعًا سياسيًا، بل جزءًا من الوعي الجمعي للناس مهما اختلفت مواقعهم أو أعمالهم.


وخلال النقاش قلت لها جملة ظلّت ترنّ في ذهني:

"الفلسطينيون يُحمد الله أنهم يعرفون عدوّهم… أما نحن، فمشكلتنا أننا لم نعد نعرف من هو العدو، ومن هو الصديق."


كانت الكلمات تخرج من القلب، لأن واقعنا اليوم مليء بالالتباس. الفلسطيني يعرف حدود المعركة، يعرف الاحتلال الذي يقف في وجهه بوضوح، ويعرف أن الظلم له وجه واحد. أما نحن، ففي زحام الواقع اليمني، اختلطت الوجوه والتبست المواقف، حتى صار المواطن يعيش تحت وطأة معارك لا يفهمها بالكامل، وقرارات لا تُتخذ لصالحه، وصراعات لا يد له فيها.


نحن نعيش نوعًا آخر من العدوان؛ عدوانًا لا تقوده طائرات ولا يُعلَن في نشرات الأخبار، لكنه يمسّ حياتنا كل يوم. عدوان يقطع الخدمات الأساسية عن المدن، ويحرم الناس من الكهرباء والماء والطرق والصحة، ويجعل المواطن في صراعٍ دائم مع احتياجاته اليومية. إنه عدوان صامت، لكنه أشدُّ قسوة من ضجيج الحرب. عدوان يسرق من الإنسان حقّه في العيش الكريم، ويستنزف طاقته وصبره، ويُشعره بأن الحياة أصبحت سلسلة من الأعباء المتواصلة.


خرجتُ من صحيفة 14 أكتوبر وأنا أفكّر: كيف يمكن لحوارٍ بسيط مع موظفة في مكتب أن يفتح بابًا واسعًا للتأمل؟ وكيف يمكن لجملة واحدة أن تلخّص حالة وطن بأكمله؟ أدركتُ حينها أن الوعي ما زال حاضرًا في نفوس الناس رغم كل ما يحدث، وأن البوصلة – مهما دارت بها الرياح – ما زالت تعرف اتجاهها الصحيح.


لقد غادرتُ المكان وأنا أشعر بأننا بحاجة إلى مثل هذه الحوارات، إلى وعي يعيد ترتيب المشهد، وإلى إدراك بأن تحديد العدو الحقيقي هو الخطوة الأولى للخلاص. فالشعوب التي تعرف من يضرّها، تعرف أيضًا كيف تنهض، وكيف تستعيد حقها في الحياة الكريمة.